﴿فاطر﴾ أي : مبدع ﴿السموات والأرض﴾ خبر آخر لذلكم أو مبتدأ خبره ﴿جعل لكم﴾ أي : بعد أن خلقكم من الأرض ﴿من أنفسكم أزواجاً﴾ حيث خلق حواء من ضلع آدم فيكون بالسكون إليها بقاء نوعكم ﴿ومن﴾ أي : وجعل لكم أي : لأجلكم من ﴿الأنعام﴾ التي هي أموالكم وجمالكم وبها أعظم أقواتكم ﴿أزواجاً﴾ أي : ذكوراً وإناثاً يكون بها أيضاً بقاء نوعها ﴿يذرؤكم﴾ بالمعجمة أي : يخلقكم ويكثركم من الذرء وهو : البث ﴿فيه﴾ أي : في هذا التدبير وهو جعل الناس والأنعام أزواجاً ليكون بينهم توالد فإنه كالمنبع للبث والتكثير فالضمير للأناسي
٦٣٠
والأنعام بالتغليب، واختلف في الكاف في قوله تعالى :﴿ليس كمثله شيء﴾ فجرى الجلال المحلي على أنها زائدة لأنه تعالى لا مثل له، وجرى غيره على أنها ليست زائدة لأنه إذا نفى عمن يناسبه ويسد مسده كان نفيه عنه أولى، وحاصله كما قال التفتازاني : إن قولنا ليس كذاته شيء وقولنا ليس كمثله شيء عبارتان كلاهما من معنى واحد وهو نفي المماثلة عن ذاته، الأولى صريحاً والثانية كناية مشتملة على مبالغة، وهي أن المماثلة منفية عمن يكون مثله وعلى صفته فكيف عن نفسه وهذا لا يستلزم وجود المثل، ألا ترى أن قولهم مثل الأمير يفعل كذا ليس اعترافاً بوجود المثل له، فالمعنى هنا : أن مثل مثله تعالى منفي فكيف بمثله، وأيضاً مثل المثل مثل فيلزم من نفيه نفيهما، وقال البغوي : المثل صلة أي : ليس كهو شيء فأدخل المثل للتوكيد، كقوله تعالى ﴿فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به﴾ (البقرة : ١٣٧)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٣٠
وهذا كالتأويل الأول وقيل : إن المراد بالمثل الصفة وذلك أن المثل بمعنى المثل، والمثل الصفة كقوله تعالى :﴿مثل الجنة﴾ (الرعد : ٣٥)
فيكون المعنى : ليس كصفته تعالى شيء من الصفات التي لغيره، وأما قوله تعالى :﴿وله المثل الأعلى﴾ (الروم : ٢٧)
فمعناه أن له الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله ولا يشاركه فيه أحد ﴿وهو﴾ أي : والحال أنه هو لا غيره ﴿السميع البصير﴾ أي : الكامل في السمع والبصر بكل ما يسمع ويبصر، فإن قيل : هذا يفيد الحصر مع أن العباد أيضاً موصوفون بكونهم سميعين بصيرين ؟
أجيب : بأن السمع والبصر لفظان مشعران بحصول هاتين الصفتين على سبيل الكمال كما مر، والكمال في كل الصفات ليس إلا لله تعالى فهذا هو المراد من هذا الحصر.
﴿له﴾ أي : وحده ﴿مقاليد السموات والأرض﴾ أي : خزائنهما ومفاتيح خزائنهما من الإمطار والإنبات وغيرهما، وقد ثبت أنه ابتدعهما وأن له جميع ما فيهما مما اتخذ من دونه ولياً وغيره، قال القشيري : والمفاتيح الخزائن وخزائنه هي مقدوراته ا. ه. ولما حصر الأمر فيه دل عليه بقوله تعالى :﴿يبسط الرزق﴾ أي : يوسعه ﴿لمن يشاء﴾ امتحاناً ﴿ويقدر﴾ أي : يضيقه لمن يشاء ابتلاء كما وسع على فارس والروم وضيق على العرب، وفاوت في الأفراد بين أفراد من وسع عليهم ومن ضيق عليهم، فدل ذلك قطعاً على أنه لا شريك له وأنه هو المتصرف وحده، فقطع بذلك أفكار الموفقين من عباده عن غيره ليقبلوا عليه ويتفرغوا له فإن عبادته هي المقاليد بالحقيقة :﴿استغفروا ربكم إنه كان غفاراً﴾ (نوح : ١٠)
الآيات ﴿ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار﴾ (الطلاق : ١١)
﴿ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض﴾ (الأعراف : ٩٦)
﴿ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم﴾ (المائدة : ٦٥)
الآية، ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿إنه بكل شيء عليم﴾ أي : فلا فعل له إلا وهو جار على أتقن ما يكون من قوانين الحكمة فيفعله على ما ينبغي.
ولما عظم وحيه إلى محمد ﷺ بقوله تعالى :﴿كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم﴾ ذكر تفصيل ذلك بقوله تعالى :
﴿شرع لكم﴾ أي : طرّق وسنّ طريقاً ظاهراً بيناً واضحاً لكم أيتها الأمة الخاتمة من الطرق الظاهرة المستقيمة ﴿من الدين﴾ وهو ما يعمل فيجازى عليه ﴿ما﴾ الذي ﴿وصى به﴾ توصية عظيمة بعد إعلامه بأنه شرعه ﴿نوحاً﴾ في الزمان الأقدم وهو أول أنبياء الشريعة، قال مجاهد : أوصيناك وإياه يا محمد ديناً واحداً ﴿والذي أوحينا إليك﴾ أي : من القرآن وشرائع الإسلام ﴿وما وصينا﴾ أي : بما لنا من العظمة الباهرة التي ظهرت بها تلك
٦٣١
المعجزات ﴿به إبراهيم﴾ الذي نجيناه من كيد نمروذ بالنار وغيرها ووهبنا له على الكبر إسماعيل وإسحاق، وقرأ هشام بفتح الهاء وألف بعدها، والباقون بكسر الهاء وياء بعدها ﴿وموسى﴾ الذي أنزلنا عليه التوراة موعظة وتفصيلاً لكل شيء ﴿وعيسى﴾ الذي أنزلنا عليه الإنجيل هدى ونوراً وموعظة، وادخرناه في سمائنا لتأييد شريعة الفاتح الخاتم صلى الله عليه وسلم
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٣٠