﴿الله﴾ أي : الذي له الأمر كله ﴿لطيف﴾ أي : بالغ في اللطف والعلم وإيقاع الإحسان ﴿بعباده﴾ وقال ابن عباس : حق بهم، وقال عكرمة : بارّ بهم وقال السدي : رفيق بهم، وقال القشيري : اللطيف : العالم بدقائق الأمور وغوامضها، وقال الرازي : هو اسم مركب من علم ورحمة ورفق خفي أما لطفه بالمؤمنين فواضح، وأما الكافر فأقل لطفه به أنه لا يعاجله في الدنيا ولا يعذبه فوق ما يستحق في الأخرى، وقال مقاتل : لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جوعاً بمعاصيهم بدليل قوله تعالى :﴿يرزق من يشاء﴾ أي : مهما شاء على سبيل من السعة والضيق أو التوسعة لا مانع له من شيء من ذلك، فكل من رزقه الله تعالى من مؤمن وكافر وذي روح فهو ممن يشاء الله تعالى أن يرزقه، قال جعفر الصادق : اللطف في الرزق من وجهين ؛ أحدهما : أنه جعل رزقك من الطيبات والثاني : أنه لم يدفعه إليك مرة واحدة ﴿وهو القوي﴾ أي : القادر على ما يشاء ﴿العزيز﴾ فلا يقدر أحد أن يمنعه عن شيء يريده.
ولما بين بهذا أن الرزق ليس إلا في يده أتبعه ما يزهد في طلب رزق البدن ويرغب في رزق الروح فقال تعالى على سبيل الاستئناف :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٣٣
من كان﴾
أي : من شريف أو دني ﴿يريد﴾ أي : بعمله ﴿حرث الآخرة﴾ أي : أعمالها والحرث في اللغة الكسب ﴿نزد له﴾ أي : بعظمتنا التي لا يقدر أحد على تحويلها ﴿في حرثه﴾ قال مقاتل : بأن يعينه على الأعمال الصالحة ويضاعف بالواحدة عشرة إلى ما شاء الله تعالى من الزيادة، وقال الزمخشري : إنه تعالى سمى ما يعمله العامل مما يطلب به الفائدة حرثاً على سبيل المجاز ﴿ومن كان﴾ أي : من قوي أو ضعيف ﴿يريد﴾ أي : بعمله ﴿حرث الدنيا﴾ أي : أرزاقها التي تطلب بالكد والسعي وتستنمي به مكتفياً به مؤثراً له على الآخرة ﴿نؤته منها﴾ أي : ما قسمناه له ولو تهاون به ولم يطلبه لآتاه، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة بسكون الهاء، واختلس قالون كسرة الهاء، وعن هشام اختلاس الكسرة في الهاء والإشباع، والباقون بإشباع الكسرة ﴿وما﴾ أي : والحال أن طالب الدنيا بعمله ما ﴿له في الآخرة من نصيب﴾ لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، وروى أبي بن كعب أن النبي ﷺ قال :"بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصرة والتمكن في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب". أي : لأن هذا تهاون بالآخرة فلم يبنوها وهي أشرف من أن تقبل على من أعرض عنها فإنها ضرة الدنيا وضدها، فالدنيا بخساستها تقبل على من أعرض عنها وتبعد عمن أقبل عليها حتى تهلكه في مهاويها، والآخرة تقبل على من أقبل عليها أضعاف إقباله وتنادي من أدبر عنها لينتهي عن غيه وضلاله، فلما سمى الله تعالى كلا القسمين حرثاً علمنا أن كل واحد منهما لا يحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب وصرف هذه المتاعب إلى ما يكون في الزائد الباقي أولى من صرفها لما يكون في التناقص والانقضاء.
قال الرازي في اللوامع : أهل الإرادة على أصناف مريد الدنيا ومريد الآخرة ومريد الحق جل
٦٣٦
وعلا، وعلامة إرادة الدنيا أن يرضى في زيادة دنياه بنقص دينه والإعراض عن فقراء المسلمين وأن تكون حاجاته في الدنيا مقصورة على الدنيا، وعلامة إرادة الآخرة بعكس ذلك، وأما علامة إرادة الله تعالى كما قال تعالى :﴿يريدون وجهه﴾ (الكهف : ٢٨)
فطرح الكونين والعزلة عن الخلق والخلاص من يد النفس انتهى. وحاصله : أن يستغرق أوقاته في التوفية بحقوق الحق وحقوق الخلق وتزكية النفس لا طمعاً في جنة ولا خوفاً من نار بل امتثالاً لأجل الملك الأعلى لأنه أهل لذلك، مع اعترافه بأنه لن يقدر الله تعالى حق قدره.
ولما بين تعالى أعمال الآخرة والدنيا أتبعه بيان ما هو الأصل في باب الضلالة والشقاوة فقال تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٣٣
أم﴾
أي : بل ﴿لهم﴾ أي : كفار مكة ﴿شركاء﴾ أي : على زعمهم وهم شياطينهم ﴿شرعوا﴾ أي : سنوا بالتزيين ﴿لهم﴾ أي : الكفار ﴿من الدين﴾ أي : الفاسد في العبادات والعادات ﴿ما لم يأذن به الله﴾ أي : الملك الذي لا أمر لأحد معه كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا، وقيل : شركاؤهم أوثانهم، وإنما أضيفت إليهم لأنهم هم الذين اتخذوها شركاء لله، ولما كانت سبباً لضلالهم جعلت شارعة لدين ضلالتهم، كما قال إبراهيم عليه السلام ﴿رب إنهن أضللن كثيراً من الناس﴾ (إبراهيم : ٣٦)


الصفحة التالية
Icon