ولما كان راكب الفلك في خطر الهلاك وراكب الدابة كذلك أيضاً لأن الدابة قد يحصل لها ما يوجب هلاك الراكب وكذا السفينة قد تنكسر فوجب على الراكب أن يذكر أمر الموت ويقول :
﴿وإنا إلى ربنا﴾ المحسن إلينا بالأقدار على هذه التنقلات على هذه المراكب لا إلى غيره ﴿لمنقلبون﴾ أي : لصائرون بالموت وما بعده إلى الدار الآخرة انقلاباً لا إياب معه إلى هذه الدار، فالآية منبهة بالسير الدنيوي على السير الأخروي وأكد لأجل إنكارهم البعث.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٥٨
ولما قال تعالى :﴿ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله﴾ بين أنهم مع إقرارهم بذلك جعلوا له من عباده جزءا كما قال تعالى :
﴿وجعلوا له من عباده﴾ الذين أبدعهم كما أبدع غيرهم ﴿جزأ﴾ أي : ولداً هو لحصرهم في الأنثى أحد قسمي الأولاد، وكل ولد فهو جزء من والده قال ﷺ "فاطمة بضعة مني"، ومن كان له جزء كان محتاجاً فلم يكن إلهاً وذلك لقولهم : الملائكة بنات الله فثبت بذلك طيش عقولهم وسخافة آرائهم، وقرأ شعبة : بضم الزاي والباقون بسكونها وهما لغتان وإذا وقف حمزة نقل حركة الهمزة إلى الزاي.
ولما كان هذا في غاية الغلط من الكفر قال مؤكداً لإنكارهم أن يكون كفراً ﴿إن الإنسان﴾ أي : هذا النوع الذي هو بعضه ﴿لكفور مبين﴾ أي : بين الكفر في نفسه مناد عليها بالكفر وقوله تعالى :
﴿أم اتخذ﴾ أي : أعالج هو نفسه فأخذ هو بعد المعالجة وهو خالق الخلق كلهم ﴿مما يخلق﴾ أي : يجدد إبداعه في كل وقت ﴿بنات﴾ استفهام توبيخ وإنكار أي : فلم يقدر بعد التكلف والتعب على غير البنات التي هي أبغض الجزأين إليكم ثم عطف على قوله تعالى اتخذ ليكون منفياً على أبلغ وجه لكونه في حيز الإنكار ﴿وأصفاكم﴾ وهو السيد الكامل وأنتم عبيده أي : خصكم ﴿بالبنين﴾ اللازم من قولكم السابق ثم بين كون البنات أبغض إليهم بقوله تعالى :
﴿وإذا﴾ أي : جعلوا ذلك والحال أنه إذا ﴿بشر﴾ أي : من أي : مبشر كان ﴿أحدهم﴾ أي : أحد هؤلاء البعداء البغضاء ﴿بما ضرب﴾ أي : جعل ﴿للرحمن﴾ الذي لا نعمة على شيء من الخالق ألا وهي منه ﴿مثلاً﴾ أي : شبهاً بنسبة البنات إليه لأن الولد يشبه الوالد، والمعنى إذا أخبر أحدهم بالبنت تولد له ﴿ظل﴾ أي : صار ﴿وجهه مسوداً﴾ أي : شديد السواد لما يعتريه من الكآبة ﴿وهو كظيم﴾ أي : ممتلئ غماً فكيف تنسب البنات إليه تعالى، هذا ما لا يرضى عاقل أن يمر بفكره فضلاً عن أن يتفوه به وقوله تعالى :
﴿أومن ينشأ﴾ أي : على ما جرت به عوائدكم ﴿في الحلية﴾ يجوز في مَنْ وجهان ؛ أحدهما : أن تكون في محل نصب مفعولاً بفعل مقدر أي : أو تجعلون من ينشأ في الحلية، والثاني : أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره أو من ينشأ جزء أولد أو جعلوه له جزأ، والمعنى : أن التي تتزين في الحلية تكون ناقصة الذات لأنه لولا نقصانها في ذاتها لما احتاجت إلى تزيين نفسها بالحلية، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين أي : يربي، والباقون بفتح الياء وسكون النون وتخفيف الشين، وإذا وقف همزة وهشام أبدلا الهمزة ألفاً ولهما أيضاً تسهيلها والروم والإشمام، ثم بين نقصان حالها بطريق آخر بقوله تعالى :﴿وهو﴾ أي :
٦٦٠
والحال أنه وقدم في إفادة الاهتمام قوله تعالى :﴿في الخصام﴾ أي : المجادلة إذا احتج إليها فيها ﴿غير مبين﴾ أي : مظهر حجته لضعفه عنها بالأنوثة، قال قتادة : في هذه الآية قلما تتكلم امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها، ثم بين تعالى جرأتهم على ما لا ينبغي لعاقل أن يتفوه بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٥٨
وجعلوا الملائكة الذين هم﴾
متصفون بأشرف الأوصاف وهو أنهم ﴿عباد الرحمن﴾ أي : العام النعمة الذين ما عصوه طرفة عين ﴿إناثاً﴾ وذلك أدنى الأوصاف خلقاً وخلقاً ذاتاً وصفة فهذا كفر ثالث كالكافرين قبله، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر : بكسر العين وبعدها نون ساكنة ونصب الدال، والباقون بعد العين بباء موحدة مفتوحة وبعدها ألف ورفع الدال ثم قال تعالى تهكماً بهؤلاء القائلين ذلك وتوبيخاً لهم وإنكاراً عليهم ﴿أشهدوا﴾ أي : أحضروا ﴿خلقهم﴾ أي : خلقي إياهم فشاهدوهم إناثاً فإن ذلك مما يعلم بالمشاهدة، وقرأ نافع بهمزتين الأولى مفتوحة والثانية مضمومة مسهلة كالواو وسكون الشين، وأدخل قالون بينهما ألفاً ولم يدخل ورش والباقون بهمزة واحدة مفتوحة وفتح الشين.


الصفحة التالية
Icon