﴿ومن يعش﴾ أي : يعرض ﴿عن ذكر الرحمن﴾ أي : الذي عمت رحمته فلا رحمة على أحد إلا وهي منه تعالى كما فعل هؤلاء حين متعناهم وأباءهم حتى أبطرهم ذلك وهو شيء يسير جداً، فأعرضوا عن الآيات والدلائل فلم ينظروا فيها إلا نظراً ضعيفاً كنظر من عشا بصره وهو من ساء بصره بالليل والنهار ﴿نقيض﴾ أي : نسبب ﴿له﴾ عقاباً على إعراضه عن ذكر الله تعالى ﴿شيطاناً﴾ أي : شخصاً نارياً بعيداً من الرحمة يكون غالباً عليه محيطاً به مثل قيض البيضة وهو القشر الداخل ﴿فهو له قرين﴾ أي : مشدود به لا يفارقه فلا يمكنه التخلص منه ما دام متعامياً عن ذكر الله تعالى، فهو يزين له العمى ويخيل إليه أنه على عين الهدى كما أن من يستبصر بذكر الرحمن يسخر له ملك فهو له ولي يثيره إلى كل خير، فذكر الله تعالى حصن حصين من الشيطان الرجيم متى خرج العبد منه أسره العدو كما ورد في الحديث".
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٦٦
وأنهم﴾ أي : القرناء ﴿ليصدونهم﴾ أي : العاشين ﴿عن السبيل﴾ أي : الطريق الذي من حاد عنه هلك لأنه لا طريق له في الحقيقة سواه ﴿ويحسبون﴾ أي : العاشون مع سيرهم في المهالك لتزيين القرناء بإحضار الحظوظ والشهوات وإبعاد المواعظ ﴿أنهم مهتدون﴾ أي : غريقون في هذا الوصف لما يستدرجون به من التوسعة عليهم والتضييق على الذاكرين.
تنبيه : ذكر الإنسان والشيطان بلفظ الجمع لأن قوله تعالى :﴿ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً﴾ فهو له قرين يفيد : الجمع وإن كان اللفظ على الواحد، قال أبو حيان : الظاهر أن ضميري النصب في وأنهم ليصدونهم : عائدان على مَنْ من حيث معناها وأما لفظها أولاً فأفراد في له وله ثم راعى معناها فجمع في قوله تعالى :﴿وإنهم ليصدونهم﴾ والضمير المرفوع على الشيطان لأن المراد به : الجنس ولأن كل كافر معه قرينه، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة : بفتح السين والباقون بكسرها وقرأ :
﴿حتى إذا جاءنا﴾ نافع وابن عامر وأبو بكر : بمد الهمزة بعد الجيم على التثنية أي : جاء العاشي والشيطان، والباقون بغير مد إفراد أي : جاء العاشي ﴿قال﴾ أي : العاشي تندماً
٦٦٧
وتحسراً لا انتفاع له به لفوات محله وهو دار العمل ﴿يا ليت بيني وبينك﴾ أي : أيها القرين ﴿بعد المشرقين﴾ أي : ما بين المشرق والمغرب على التغليب قاله ابن جرير وغيره، أو مشرق الشتاء والصيف أي بعد أحدهما عن الآخر ثم سبب عن هذا التمني قوله جامعاً له أنواع المذام ﴿فبئس القرين﴾ والمخصوص بالذم محذوف أي : أنت لأنك الذي قد أضللتني وأوصلتني إلى هذا العيش الضنك والمحل الدحض قال أبو سعيد الخدري :"إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصيرا إلى النار" وفي فاعل قوله تعالى :
﴿ولن ينفعكم اليوم﴾ قولان أحدهما : أنه ملفوظ به وهو أنكم وما في حيزها والتقدير : ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب بالتأسي كما ينفعكم الاشتراك في مصائب الدنيا فيتأسى المصاب بمثله ومنه قول الخنساء :
*ولولا كثرة الباكين حولي ** على موتاهم لقتلت نفسي*
*وما يبكون مثل أخي ولكن ** أعزي النفس عنه بالتأسي*
والثاني : أنه مضمر فقدره بعضهم ضمير التمني المدلول عليه بقوله :﴿يا ليت بيني﴾ أي : لن ينفعكم تمنيكم البعد وبعضهم اجتماعكم وبعضهم ظلمكم وجحدكم، وعبارة من عبر بأن الفاعل محذوف مقصوده الإضمار المذكور لا الحذف إذ الفاعل لا يحذف إلا في مواضع ليس هذا منها والمعنى : ولن ينفعكم اليوم في الآخرة ﴿إذ ظلمتم﴾ أي : أشركتم في الدنيا ﴿أنكم في العذاب مشتركون﴾ أي : لا ينفعكم الاشتراك في العذاب ولا يخفف الاشتراك عنكم لأن لكل واحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر من العذاب كما كنتم تشتركون في الدنيا.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٦٦
تنبيه : استشكل المعربون هذه الآية ووجهه أن قوله تعالى :﴿اليوم﴾ ظرف حالي وإذ ظرف ماضي وينفعكم مستقبل لاقترانه بلن التي لنفي المستقبل، والظاهر أنه عامل في الظرفين وكيف يعمل الحدث المستقبل الذي لم يقع إلا بعد في ظرف حالي وماض هذا مما لا يجوز ؟
أجيب : عن أعماله في الظرف الحالي على سبيل قربه منه لأن الحال قريب من الاستقبال فيجوز في ذلك قال تعالى :﴿فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً﴾ (الجن : ٩)
وقال الشاعر :
*سأسعى الآن إذ بلغت أباها ** وهو إقناعي وإلا فالمستقبل*
يستحيل وقوعه في الحال عقلاً وأما قوله تعالى :﴿إذ﴾ ففيها للناس أوجه كثيرة قال ابن جني : راجعت أبا علي فيها مراراً كثيرة فآخر ما حصلت منه أن الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله تعالى وعلمه، فإذ بدل من اليوم حتى كأنها مستقبلة أو كان اليوم ماض وإلى هذا نحا الزمخشري قال : وإذ بدل من اليوم، وحمل الزمخشري على معنى إذ تبين وصح ظلمكم ولم يبق لأحد ولا لكم شبهة في أنكم كنتم ظالمين ونظيره :
٦٦٨
*إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة*
أي : تبين أني ولد كريمة.
ولما وصفهم في الآية المتقدمة بالعشي وصفهم بالصمم والعمى بقوله تعالى :