﴿أفأنت﴾ أي : وحدك من غير إرادة الله تعالى ﴿تسمع الصم﴾ وقد أصممناهم بما صببنا في مسامع أفهامهم من رصاص الشقاء ﴿أوتهدي العمي﴾ الذين أعميناهم بما غشينا به أبصار بصائرهم من أغشية الخسارة روي أنه ﷺ "كان يجتهد في دعاء قومه وهم لا يزيدون إلا تصميماً على الكفر وعناداً في الغي فنزلت". أي : هم في النفرة عنك وعن دينك بحيث إذا أسمعتهم القرآن كانوا كالصم وإذا أريتهم المعجزات كانوا كالعمي وقوله تعالى ﴿ومن كان﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿في ضلال مبين﴾ عطف على العمي باعتبار تغاير الوصفين، وفيه إشعار بأن الموجب لذلك تمكنهم في ضلال لا يخفى بين في نفسه أنه ضلال وأنه محيط بالضال، يظهر لكل أحد ذلك فهو بحيث لا يخفى على أحد فالمعنى : ليس شيء من ذلك إليك بل هو إلى الله تعالى القادر على كل شيء وأما أنت فليس عليك إلا البلاغ فلا تتعب نفسك.
﴿فإما نذهبن بك﴾ أي : من بين أظهرهم بموت أو غيره وما مزيدة مؤكدة بمنزلة لام القسم في استجلاب النون المؤكدة ﴿فإنا منهم﴾ أي : من الذين تقدم التعريض بأنهم صم عمي ضلال لم تنفعهم مشاعرهم ﴿منتقمون﴾ أي : بعد فراقك لأن وجودك بين أظهرهم هو سبب تأخير العذاب عنهم.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٦٦
أو نرينك﴾ وأنت بينهم ﴿الذي وعدناهم﴾ أي : من العذاب وعبر فيه بالوعد ليدل على الخير بلفظه وعلى الشر بأسلوبه ﴿فإنا﴾ أي : بما لنا من العظمة التي أنت أعلم الخلق بها ﴿عليهم﴾ أي : على عقابهم ﴿مقتدرون﴾ على كلا التقديرين، وأكد بأن لأن أفعالهم أفعال من ينكر قدرته وكذا بالإتيان بنون العظمة وصيغة الافتعال.
﴿فاستمسك﴾ أي : اطلب وأوجد بجد عظيم على كل حال من أحوال الإمساك ﴿بالذي أوحى إليك﴾ من حين نبوتك إلى الآن في الانتقام منهم وفي غيره ﴿إنك على صراط﴾ أي : طريق واسع واضح جداً ﴿مستقيم﴾ أي : موصل إلى المقصود لا يصح أصلاً أن يلحقه شيء من عوج.
﴿وإنه﴾ أي : الذي أوحى إليك في الدين والدنيا ﴿لذكر﴾ أي : لشرف عظيم جداً وموعظة وبيان ﴿لك ولقومك﴾ قريش خصوصاً لنزوله بلغتهم والعرب عموماً وسائر من اتبعك ولو كان من غيرهم روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ "كان إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك لم يخبر بشيء حتى نزلت هذه الآية فكان بعد ذلك إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك قال : لقريش". وروى ابن عمر قال : قال رسول الله ﷺ "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان". وروى معاوية قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :"إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين". وقال مجاهد : القوم هم العرب فالقرآن لهم شرف
٦٦٩
إذ نزل بلغتهم ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالأخص من العرب حتى يكون الأكثر لقريش ولبني هاشم، وقيل : ذكر لك بما أعطاك من الحكمة ولقومك من المؤمنين بما هداهم الله تعالى به ﴿وسوف تسألون﴾ أي : عن القرآن يوم القيامة وعن قيامكم بحقه وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له، وقال الكلبي : تسألون هل أديتم شكر إنعامنا عليكم بهذا الذكر الجميل، وقال مقاتل : يقال لمن كذب به لم كذبت ؟
فيسأل سؤال توبيخ وقيل : يسألون هل عملتم بما دل عليه القرآن من التكاليف. وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : لما أسري بالنبي ﷺ إلى المسجد الأقصى إلى السموات العلى بعث له آدم وولده من المرسلين عليهم السلام فأذن جبريل عليه السلام ثم أقام وقال : يا محمد تقدم فصل بهم، فلما فرغ من الصلاة قال له جبريل عليه السلام :
﴿واسأل من أرسلنا﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن﴾ أي : غيره ﴿آلهة يعبدون﴾ فقال رسول الله ﷺ لا أسأل قد اكتفيت ولست شاكاً فيه. وهذا قول الزهري وسعيد بن جبير وأبي زيد : قالوا جمع له الرسل ليلة أسري به وأمر أن يسألهم فلم يسأل ولم يشك. وقال أكثر المفسرين : سل مؤمني أهل الكتاب الذين أرسلت إليهم الأنبياء عليهم السلام هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد وهو قول مجاهد وقتادة والسدي، ولم يسأل النبي ﷺ على واحد من القولين لأن المراد من الأمر بالسؤال التقرير لمشركي قريش أنه لم يأت رسول من الله تعالى ولا كتاب بعبادة غير الله تعالى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٦٦
ولما طعن كفار قريش في نبوة محمد ﷺ وبكونه فقيراً معدماً عديم الجاه والمال بين الله تعالى أن موسى عليه السلام بعد أن أورد المعجزات القاهرة التي لا يشك في صحتها عاقل أورد عليه فرعون هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش فقال تعالى :