ولا يصدنكم الشيطان} أي : عن هذا الطريق الواضح الواسع المستقيم الموصل إلى المقصود بأيسر سعي ﴿إنه لكم﴾ أي : عامة وأكد الخبر لأن أفعال التابعين له أفعال من ينكر عداوته ﴿عدو مبين﴾ أي : واضح العداوة في نفسه مناد بها وذلك بإبلاغه في عداوة أبيكم آدم عليه السلام حتى أنزلكم بإنزاله عن محل الراحة إلى موضع النصب عداوة ناشئة عن الحسد فهي لا تنفك أبداً.
﴿ولما جاء عيسى﴾ أي : إلى بني إسرائيل ﴿بالبينات﴾ أي : المعجزات أي : بآيات الإنجيل وبالشرائع الواضحات ﴿قال﴾ منبهاً لهم ﴿قد جئتكم﴾ بما يدلكم قطعاً على أني آية من عند الله وكلمة منه ﴿بالحكمة﴾ أي : الأمر المحكم الذي لا يستطاع نقضه، ولا يدفع بالمعاندة لأخلصكم بذلك مما وقعتم فيه من الضلال ﴿ولأبين لكم﴾ أي : بياناً واضحاً ﴿بعض الذي تختلفون﴾ أي : الآن ﴿فيه﴾ ولا تزالون تجددون الخلاف بسببه، فإن قيل : لِمَ لم يبين لهم كل الذي يختلفون فيه ؟
أجيب : بأنه بين لهم كل ما يكون من أمر الدين لا ما يتعلق بأمر الدنيا فإن الأنبياء لم تبعث لبيانه، ولذلك قال نبينا ﷺ "أنتم أعلم بأمر دنياكم". ويحتمل أن يكون المراد أنه يبين لهم
٦٧٥
بعض المتشابه وهو ما يكون بيانه كافياً في رد بقية المتشابه إلى المحكم بالقياس عليه، فإن الشأن في كل كتاب أن يجمع المحكم والمتشابه، فالمحكم : ما ليس فيه التباس، والمتشابه : ما يكون ملتبساً وفيه ما يرده إلى المحكم لكن على طريق الرمز والإشارة التي لا يذوقها إلا أهل البصائر ليتبين بذلك الصادق من الكاذب، فالصادق الذي رسخ علماً وإيماناً يرد المتشابه منه إلى المحكم أو يعجز فيقول : الله أعلم بمراده ﴿ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا﴾ (آل عمران : ٨)
ولا يتزلزل، والكاذب يتبع المتشابه فيجريه على ظاهره كأهل الإلحاد الجوامد المفتونين أو يؤوله بحسب هواه بما لا يتمشى على قواعد العلم ولا يوافق المحكم فيفتتن.
ولما بين لهم الأصول والفروع قال :﴿فاتقوا الله﴾ أي : خافوا من له الملك الأعظم من الكفر والإعراض عن دينه لأن له كل شيء منكم ومن غيركم، ومن المعلوم لكل ذي عقل أنه لا يتصرف في ملك الغير بوجه من الوجه إلا بإذنه ﴿وأطيعون﴾ أي : فيما أبلغه عنه إليكم من التكاليف فطاعتي لأمره بما يرضيه هو ثمرة التقوى وكلما زاد المتقي في أعمال الطاعة زادت تقواه.
﴿إن الله﴾ أي : الذي اختص بالجلال والجمال فكان أهلاً لأن يُتقى ﴿هو﴾ أي : وحده ﴿ربي وربكم﴾ أي : المحسن إلي وإليكم ﴿فاعبدوه﴾ أي : بما أمركم به لأنه صدقني في أمركم باتباعي بما أظهره على يدي فصار هو الآمر لكم لا أنا ﴿هذا﴾ أي : الأمر العظيم الذي دعوتكم إليه ﴿صراط﴾ أي : طريق واسع جداً واضح ﴿مستقيم﴾ لا عوج فيه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٧٥
ولما كان الطريق الواضح القويم موجباً للاجتماع عليه والوفاق عند سلوكه بين تعالى أنهم اختلفوا فيه بقوله تعالى :
﴿فاختلف الأحزاب﴾ أي : الفرق المتحزبة ﴿من بينهم﴾ أي : اختلافاً ناشئاً ابتداء من بني إسرائيل في عيسى أهو الله ؟
أو ابن الله ؟
أو ثالث ثلاثة ؟
وقوله تعالى :﴿فويل﴾ كلمة عذاب ﴿للذين ظلموا﴾ أي : وضعوا الشيء في غير موضعه بما قالوه في عيسى عليه السلام ﴿من عذاب يوم أليم﴾ أي : مؤلم وإذا كان اليوم مؤلماً فما الظن بعذابه.
﴿هل ينظرون﴾ أي : هل ينظر كفار مكة أو الذين ظلموا ﴿إلا الساعة﴾ أي : ساعة الموت العام والبعث والقيامة فإن ذلك لتحقق أمره كأنه موجود منظور إليه وقوله تعالى :﴿أن تأتيهم﴾ بدل من الساعة، فإن قيل : قوله تعالى :﴿بغتة﴾ أي : فجأة يفيد قوله تعالى :﴿وهم لا يشعرون﴾ أي : بوقت مجيئها قبله ؟
أجيب : بأنه يجوز أن تأتيهم بغتة وهم يعرفونه بسبب أنهم يشاهدونه.
﴿الأخلاء﴾ أي : الأحباء في الدنيا على المعصية وقوله تعالى :﴿يومئذ﴾ أي : يوم القيامة، متعلق بقوله تعالى :﴿بعضهم لبعض عدو﴾ أي : يتعادون في ذلك اليوم لانقطاع العلق لظهور ما كانوا يتحابون له سبباً للعذاب ﴿إلا المتقين﴾ أي : المتحابين في الله على طاعة الله تعالى وهم الموحدون الذين يخالل بعضهم بعضاً على الإيمان والتقوى فإن خلتهم لا تصير عداوة.
روى أبو ثور عن مَعْمَر عن قَتَادة عن أبي إسحاق أن علياً قال في الآية : خليلان مؤمنان وخليلان كافران فمات أحد المؤمنين فقال : يا رب إن فلاناً كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك يأمرني بالخير وينهاني عن الشر ويخبرني أني ملاقيك يا رب فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني، فإذا مات خليله المؤمن جمع الله بينهما فيقول : لِيثنين أحدكم على صاحبه فيقول : نِعم الأخ ونِعم الخليل ونِعم الصاحب، قال : ويموت أحد الكافرينِ فيقول : يا رب إن فلاناً كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك فبئس الأخ وبئس الخليل وبئس الصاحب.
٦٧٦