ثم بين تعالى ما يتلقى به المؤمنين الذين قد توادوا فيه سبحانه تشريفاً لهم وتسكيناً لما يقتضيه ذلك المقام من الأهوال بقوله تعالى :
﴿يا عباد﴾ فأضافهم إلى نفسه إضافة تشريفٍ لأن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين المطيعين المتقين، وفيه أنواع كثيرة توجب المدح أولها : أن الحق سبحانه وتعالى خاطبهم بنفسه من غير واسطة وهذا تشريف عظيم بدليل أنه تعالى لما أراد تشريف نبيه محمد ﷺ قال تعالى :﴿سبحان الذي أسرى بعبده﴾ والثاني قوله :﴿لا خوف﴾ أي : بوجه من الوجوه ﴿عليكم اليوم﴾ أي : في يوم الآخرة مما يحويه من الأهوال والأمور الشداد والزلزال، وثالثها : قوله تعالى :﴿ولا أنتم تحزنون﴾ أي : لا يتجدد لكم حزن على شيء فات في وقت من الأوقات الآتية لأنكم لا يفوتكم شيء تسرون به، وقرأ شعبة بفتح الياء في الوصل وسكنها نافع وأبو عمرو وابن عامر وحذفها الباقون وقفاً ووصلاً وقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٧٥
الذين آمنوا﴾
أي : أوجدوا هذه الحقيقة يجوز أن يكون نعتاً لعبادي أو بدلاً منه أو عطف بيان له أو مقطوعاً منصوباً بفعلٍ أي : أعني الذين آمنوا أو مرفوعاً وخبره مضمر تقديره يقال لهم : ادخلوا الجنة، قال مقاتل : إذا وقع الخوف يوم القيامة نادى مناد : يا عبادي لا خوف عليكم اليوم فإذا سمعوا النداء رفع الخلائق رؤوسهم فيقول الذين آمنوا ﴿بآياتنا﴾ الظاهرة عظمتها في نفسها أولاً وبنسبتها إلينا ثانياً ﴿وكانوا﴾ أي : دائماً بما هو لهم كالجبلة والخلق ﴿مسملين﴾ أي : منقادين للأوامر والنواهي أتم انقياد فبذلك يعدلون إلى حقيقة التقوى فينكس أهل الأديان الباطلة رؤوسهم فيمر حسابهم على أحسن الوجوه ثم يقال لهم :
﴿ادخلوا الجنة﴾ ولما كان السرور لا يكمل إلا بالرفيق السار قال تعالى :﴿أنتم وأزواجكم﴾ أي : نساؤكم اللاتي كن مشاكلات لكم في الصفات، وأما قرناؤهم من الرجال فدخلوا في قوله تعالى وكانوا مسلمين ﴿تحبرون﴾ أي : تسرون وتنعمون والحبرة : المبالغة في الإكرام على أحسن الوجوه وقوله تعالى :
﴿يطاف﴾ قبله محذوف أي : يدخلون يطاف ﴿عليهم﴾ أي : المتقين الذي جعلناهم بهذا النداء ملوكاً ﴿بصحاف من ذهب﴾ فيها من ألوان الأطعمة والفواكه والحلوى ما لا يدخل تحت الوهم، والصحاف جمع صَحْفَة كجفنة وجفان، قال الجوهري : الصحفة كالقصعة والجمع صحاف، قال الكسائي : أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة تليها تشبع العشرة ثم الصحفة تشبع الخمسة ثم المِئكلة تشبع الرجلين والثلاثة ثم الصحيفة تشبع الرجل والصحيفة الكتاب والجمع صحف وصحائف.
ولما كانت آلة الشرب في الدنيا أقل من آنية الأكل جرى على ذلك المعهود فعبر بجمع القلة في قوله تعالى :﴿وأكواب﴾ جمع كوب وهو كوز مستدير مدور الرأس لا عروة له إيذاناً بأنه لا حاجة أصلاً إلى تعليق شيء لتبريد أو صيانة عن أذى أو نحو ذلك : وقيل : هو كالإبريق إلا أنه لا عروة له، وقيل : إنه لا خرطوم له، وقيل : إنه لا عروة له ولا خرطوم معاً قال الجواليقي : ليتمكن الشارب من أين شاء فإن العروة تمنع من ذلك وقال عدي :
*متكئاً تصفق أبوابه ** يطوف عليه العبد بالكوب*
٦٧٧
ثم إنه تعالى لما ذكر التفصيل ذكر بياناً كلياً فقال ﴿وفيها﴾ أي : الجنة ﴿ما تشتهي الأنفس﴾ من الأشياء المعقولة والمسموعة والملموسة جزاء لهم بما منعوا أنفسهم من الشهوات في الدنيا ﴿وتلذ الأعين﴾ أي : من الأشياء المبصرة التي أعلاها النظر إلى وجهه الكريم جزاء ما تحملوه من مشاق الاشتياق.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٧٥
روي أن رجلاً قال :"يا رسول الله أفي الجنة خيل فإني أحب الخيل فقال : إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرساً من ياقوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت، فقال أعرابي : يا رسول الله أفي الجنة إبل فإني أحب الإبل فقال : يا أعرابي إن أدخلك الله الجنة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك" وقرأ نافع وابن عامر وحفص بهاء بعد الياء بإثبات العائد على الموصول كقوله تعالى :﴿الذي يتخبطه الشيطان من المس﴾ والباقون بغيرها بعد الياء كقوله تعالى :﴿أهذا الذي بعث الله رسولاً﴾ وهذه القراءة مشبهة بقوله تعالى :﴿وما عملته أيديهم﴾ وهذه الهاء في هذه السورة رسمت في مصاحف المدينة والشام وحذفت من غيرها، وقد وقع لأبي عبد الله الفاسي شارح القصيدة وهم فسبق قلمه فكتب الهاء منه محذوفة في مصاحف المدينة والشام مثبوتة في غيرها فعكس.
ولما كان ذلك لا يكمل إلا بالدوام قال تعالى عائداً إلى الخطاب لأنه أشرف وأكد ﴿وأنتم فيها خالدون﴾ لبقائها وبقاء كل ما فيها فلا كلفة عليهم أصلاً من خوف من زوال ولا خوف من فوات. ثم أشار إلى فخامتها بأداة البعد فقال تعالى :


الصفحة التالية
Icon