﴿وتلك الجنة﴾ أي : العالية المقام ﴿التي أورثتموها﴾ شبه جزاء العمل بالميراث لأنه يخلفه عليه العامل، وقرأ أبو عمرو وهشام وحمزة والكسائي بإدغام الثاء المثلثة في المثناة وأظهرها الباقون ﴿بما﴾ أي : بسبب ما ﴿كنتم تعملون﴾ أي : مواظبين على ذلك لا تفترون لأن العمل كان لهم كالجبلة التي جبلوا عليها فالمنة لربهم في الحقيقة بما زكى لهم أنفسهم.
ولما ذكر سبحانه الطعام والشراب ذكر الفاكهة فقال :
﴿لكم فيها فاكهة﴾ أي : ما يؤكل تفكهاً وإن كان لحماً وخبزاً ﴿كثيرة﴾ ودل على الكثرة وعلى دوام النعمة بقصد التفكه لكل شيء فيها بقوله تعالى :﴿منها﴾ أي : لا من غيرها مما يلحظ فيه القوت ﴿تأكلون﴾ فلا تنفد أبداً ولا تتأثر بأكل الآكلين لأنها على صفة الماء النابع لا يؤخذ منها شيء إلا خلف مكانه مثله في الحال، ورد في الحديث :"أنه لا ينزع رجل ثمرة إلا نبت مكانها مثلاها".
تنبيه :
لما بعث الله تعالى نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام إلى العرب وكانت في ضيق شديد بسبب المأكول والمشروب والفاكهة ذكر الله تعالى هذه المعاني مرة بعد أخرى تكميلاً لرغباتهم وتقوية لدواعيهم ومِنْ في قوله تعالى ﴿منها تأكلون﴾ تبعيضية أو ابتدائية وقدم الجار لأجل الفاصلة.
٦٧٨
ولما ذكر سبحانه الوعد أردفه بالوعيد على الترتيب المستمر في القرآن فقال تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٧٥
﴿إن المجرمين﴾ أي : الراسخين في قطع ما أمر الله به أن يوصل ﴿في عذاب جهنم﴾ أي : النار التي من شأنها إلقاء داخلها بالتجهم والكراهة والعبوسة كما كان يعمل عند قطعه لأولياء الله تعالى ﴿خالدون﴾ لأن اجتراءهم كان طبعاً لهم لا ينفكون عنه أصلاً ما بقوا.
﴿لا يفتر عنهم﴾ أي : لا يقصد إضعافه بنوع من الضعف فنفي التفتر نفي للفتور من غير عكس، قال البيضاوي : وهو من فترت عنه الحمى إذا سكنت قليلاً والتركيب للضعف ﴿وهم فيه﴾ أي : العذاب ﴿مبلسون﴾ أي : ساكتون سكوت يأس من النجاة والفرج، وعن الضحاك : يجعل المجرم في تابوت من نار ثم يقفل عليه فيبقى خالداً لا يرى ولا يرى.
﴿وما ظلمناهم﴾ نوعاً من الظلم ﴿ولكن كانوا﴾ جبلة وطبعاً وعملاً وصنعاً ﴿هم الظالمين﴾ لأنهم بارزوا المنعم عليهم بالعظائم ونووا أنهم لا ينفكون عن ذلك ما بقوا والأعمال بالنيات.
ولما كان مفهوم الإبلاس السكوت بين تعالى أنهم ليسوا ساكتين دائماً بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٧٩
ونادوا﴾
ثم بين أن المنادي خازن النار بقوله تعالى : مؤكداً البعد بأداته ﴿يا مالك ليقض علينا﴾ أي : سل سؤالاً حتماً أن يقضي القضاء الذي لا قضاء مثله وهو الموت على كل واحد منا وجروا على عادتهم في الغباوة والجلافة فقالوا :﴿ربك﴾ أي : المحسن إليك فلم يروا للَّه تعالى عليهم إحساناً وهم في تلك الحالة ولا شك أن إحسانه ما انقطع عن موجود أصلاً، وأقل ذلك أنه لا يعذب أحداً منهم فوق استحقاقه، ولذلك جعل النار دركات كما جعل الجنة درجات فأجاب مالك عليه السلام بأن ﴿قال﴾ مؤكداً قطعاً لأطماعهم لأن كلامهم هذا هو بحيث يفهم الرجاء وإعلاماً بأن رحمة الله التي موضع الرجاء خاصة بغيرهم ﴿إنّكم ماكثون﴾ أي : دائماً أبداً لا خلاص لكم بموت ولا غيره وليس في القرآن متى أجابهم هل أجابهم في الحال أو بعد مدة لكن.
روى ابن عباس : أن أهل النار يدعون مالكاً خازن النار يقولون : ليقض علينا ربك أي : ليمتنا ربك فنستريح، فيجيبهم مالك بعد ألف سنة إنكم ماكثون أي : مقيمون في العذاب. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص : يجيبهم بعد أربعين، وعن غيره مائة سنة واختلفوا في أن قولهم :﴿يا مالك ليقض علينا ربك﴾ على أي وجه طلبوه فقال بعضهم : على التمني وقال آخرون : على وجه الاستغاثة وإلا فهم عالمون بأنه لا خلاص لهم من ذلك العذاب. ثم إنه تعالى ذكر ما هو كالعلة لذلك الجواب بقوله تعالى :
﴿لقد جئناكم﴾ أي : في هذه
٦٧٩
السورة خصوصاً وفي جميع القرآن عموماً ﴿بالحق﴾ على لسان الرسل وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الدال عند الجيم، والباقون بالإدغام ﴿ولكن أكثركم للحق كارهون﴾ لما فيه من المنع من الشهوات فلذلك أنتم تقولون إنه ليس بحق لأجل كراهتكم فقط لا لأجل أن في حقيّته نوعاً من الخفاء، فإن قيل : كيف قال : ونادوا يا مالك بعد أن وصفهم بالإبلاس ؟
أجيب : بأنها أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتاً لغلبة اليأس عليهم ويستغيثون أوقاتاً لشدة ما بهم، روى أنه يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب فيقولون : ادعوا مالكاً فيدعون ﴿يا مالك ليقض علينا ربك﴾.
ولما ذكر تعالى كيفية عذابهم في الآخرة ذكر بعده كيفية مكرهم وفساد باطنهم في الدنيا فقال تعالى :


الصفحة التالية
Icon