يغشى الناس} أي : المهددين بهذا فقالوا عند إتيانه ﴿هذا عذاب اليم﴾ أي : يخلص وجعه إلى القلب فيبلغ في ألمه كما كنتم تؤلمون من يدعوكم إلى الله تعالى، واختلف في هذا الدخان فروى أبو الصفاء عن مسروق قال : بينما رجل يحدث في كندة قال : يجيء دخان يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمن كهيئة الزكام ففزعنا، فأتينا ابن مسعود وكان متكئاً فغضب فجلس فقال : من علم فليقل به ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم : لا أعلم، فإن الله تعالى قال لنبيه ﷺ ﴿قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين﴾ فإن قريشاً أبطأوا عن الإسلام فدعاهم النبي ﷺ فقال :"اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان، فجاءه أبو سفيان فقال : يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم وإن قومك قد هلكوا فادع الله تعالى لهم فقرأ ﴿فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين﴾ إلى قوله تعالى ﴿عائدون﴾ وهذا قول ابن عباس ومقاتل ومجاهد واختيار الفراء والزجاج وهو قول ابن مسعود وكان ينكر أن يكون الدخان إلا هذا الذي أصابهم من شدة الجوع كالظلمة في أبصارهم حتى كانوا كأنهم يرون دخاناً.
وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان في هذه الحالة وجهين الأول : أن في سنة القحط يعظم يبس الأرض فبسبب انقطاع المطر يرتفع الغبار الكثير ويظلم الهواء وذلك يشبه الدخان ويقولون : كان بيننا أمر ارتفع له دخان، ولهذا يقال للسنة المجدبة الغبراء، الثاني : أن العرب يسمون الشيء الغالب بالدخان والسبب فيه : أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه ويرى الدنيا كالمملوءة من الدخان.
٦٨٨
ونقل عن علي بن أبي طالب : أنه دخان يظهر في العالم وهو إحدى علامات القيامة، ويروى أيضاً عن ابن عباس في المشهور عنه لما روي عن النبي ﷺ أنه قال :"أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا قال حذيفة : يا رسول الله وما الدخان فتلا رسول الله ﷺ الآية وقال : يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة، أما المؤمن فيصيبه كالزكمة وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه النار". وقال ﷺ "باكروا بالأعمال ستاً وذكر منها طلوع الشمس من مغربها والدخان والدابة" رواه الحسن. واحتج الأولون بأنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٨٤
ربنا اكشف عنا العذاب﴾
ثم عللوا بما علموا أنه الموجب للكشف فقالوا مؤكدين ﴿إنا مؤمنون﴾ أي : عريقون في وصف الإيمان فإذا حمل على القحط الذي وقع بمكة استقام، فإنه نقل أن الأمر لما اشتد على أهل مكة مشى إليه أبو سفيان فناشده الله والرحم وواعده إن دعا لهم وأزال عنهم تلك البلية أن يؤمنوا به، فلما أزالها الله عنهم رجعوا إلى شركهم، أما إذا حمل على أن المراد منه : ظهور علامة من علامات القيامة لم يصح ذلك لأن عند ظهور علامات القيامة لا يمكنهم أن يقولوا :﴿ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون﴾ ولم يصح أيضاً أن يقال :﴿إنا كاشفو العذاب قليلاً إنكم عائدون﴾ قال البقاعي : ويصح أن يراد به طلوع الشمس من مغربها، روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال :"لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها" ثم قرأ الآية.
﴿أنى﴾ أي : كيف ومن أين ﴿لهم الذكرى﴾ أي : هذا التذكر العظيم الذي وصفوا به أنفسهم، وقرأ حمزة والكسائي أنى بالإمالة محضة، وقرأ أبو عمرو بالإمالة بين بين، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح وأمال الذكرى محضة أبو عمرو وحمزة والكسائي، وأمال ورش بين بين، والباقون بالفتح وكذلك الكبري ﴿وقد﴾ أي : والحال أنه قد ﴿جاءهم﴾ ما هو أعظم من ذلك وأدخل في وجوب الطاعة ﴿رسول مبين﴾ أي : ظاهر غاية الظهور، وموضح غاية الإيضاح، وهو محمد ﷺ وأظهر دال قد نافع وابن ذكوان وعاصم وأدغمها الباقون.
﴿ثم تولوا عنه﴾ أي : أطاعوا ما دعاهم إلى الإدبار عنه من دواعي الهوى ونوازع الشهوات والحظوظ ﴿وقالوا﴾ أي : زيادة على إساءتهم بالتولي ﴿معلم﴾ أي : علمه غيره القرآن من البشر، قال بعضهم : علمه غلام أعجمي لبعض ثقيف، وقال آخرون : إنه ﴿مجنون﴾ أي : يلقي الجن إليه هذه الكلمات حال ما يعرض له الغشي.
﴿إنا﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿كاشفو العذاب﴾ أي : بدعاء النبي ﷺ فإنه دعا فرفع
٦٨٩


الصفحة التالية
Icon