﴿أتأتون الذكران﴾ وقوله ﴿من العالمين﴾ يحتمل عوده إلى الآتي، أي : أنتم من جملة العالمين مخصوصون بهذه الصفة وهي إتيان الذكور ولم يفعل هذا الفعل غيركم من الناكحين من الخلق، ويحتمل عوده إلى المأتي : أي : أنتم اخترتم الذكران من العالمين كالإناث منهم وعلى هذا يحتمل أن يراد الذكران من الآدميين ومن غيرهم توغلاً في الشرّ وتجاهراً بالتهتك، قال البقاعي : وإن يراد الآدميون وجرى عليه البغوي وأكثر المفسرين أي : تريدون الذكران من أولاد آدم مع كثرة الإناث وغلبتهنّ.
﴿وتذرون﴾ أي : تتركون لهذا الغرض ﴿ما خلق لكم﴾ أي : للنكاح ﴿ربكم﴾ أي : المحسن إليكم وقوله ﴿من أزواجكم﴾ يصلح أن يكون تبييناً أي : وهن الإناث وأن يكون للتبعيض ويكون المخلوق لذلك هو القبل، وكانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم، ثم كأنهم قالوا نحن لم نترك نساءنا أصلاً ورأساً وإن كانوا قد فهموا أنّ مراده تركهن حال الفعل في الذكور، فقال مضرباً عن مقالهم لما أرادوا به حيدة عن الحق وتمادياً في الفجور ﴿بل أنتم قوم عادون﴾ أي : متجاوزون عن حدّ الشهوة حيث زادوا على سائر الناس بل والحيوانات أي : مفرطون في المعاصي، وهذا من جملة ذلك، أو أحقاء بأن توصفوا بالعدوان بارتكابكم هذه الجريمة.
٧٠
ولما اتضح الحق عندهم وعرفوا أن لا وجه لهم في ذلك وانقطعت حجتهم.
﴿قالوا﴾ مقسمين ﴿لئن لم تنته﴾ وسموه باسمه جفاء وغلظة بقولهم :﴿يا لوط﴾ أي : عن مثل إنكارك هذا علينا ﴿لتكونن من المخرجين﴾ أي : ممن أخرجناه من بلدنا على وجه فظيع من تعنيف واحتباس أملاك كما هو حال الظلمة إذا أجلوا بعض من يغضبون عليه وكما كان يفعل بعض أهل مكة بمن يريد المهاجرة، وفي هذا إشارة إلى أنه غريب عندهم وأنّ عادتهم المستمّرة نفي من اعترض عليهم.
﴿قال﴾ مجيباً لهم ﴿إني﴾ مؤكداً المضمون ما يأتي به ﴿لعملكم من القالين﴾ أي : المبغضين غاية البغض لا أقف عن الإنكار عليه بالإبعاد.
تنبيه : قوله من القالين : أبلغ من أن يقول إني لعملكم قالٍ كما تقول فلان من العلماء فيكون أبلغ من قولك فلان عالم لأنك تشهد له بكونه معدوداً في زمرتهم ومعروفة مساهمته لهم في العلم، والقلي : البغض الشديد كأنّ البغض يقلي الفؤاد والكبد والقالي المبغض كما قال القائل :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٠
ووالله ما فارقتكم قالياً لكم ** ولكن ما يقضى عليّ يكون*
ثم إنه عليه السلام دعا إلى الله تعالى بقوله :
﴿رب نجني وأهلي﴾ وقوله :﴿مما يعملون﴾ يحتمل أن يريد من عقوبة عملهم، قال الزمخشري : وهو الظاهر، ويحتمل أن يريد بالتنجية العصمة، ثم إنّ الله تعالى قبل دعاءه كما قال تعالى :
﴿فنجيناه وأهله﴾ مما عذبناهم به بإخراجنا له من بلدهم حين استخفافهم له ولم نؤخره عنهم إلى حين خروجهم إلا لأجله، وأكد بقوله تعالى :﴿أجمعين﴾ إشارة إلى أنه نجى أهل بيته ومن تبعه على دينه، ثم استثنى تعالى من أهل بيته قوله تعالى :
﴿إلا عجوزاً﴾ وهي امرأته كائنة ﴿في﴾ حكم ﴿الغابرين﴾ أي : الماكثين الذين تلحقهم الغبرة بما يكون من الداهية فإننا لم ننجها لقضائنا بذلك في الأزل لكونها لم تتابعه في الدين ولم تخرج معه وكانت مائلة إلى القوم راضية بفعلهم، وقيل : أنها خرجت فأصابها حجر في الطريق فأهلكها.
فإن قيل : كان أهله مؤمنين ولولا ذلك لما طلب لهم النجاة فكيف استثنيت الكافرة منهم ؟
أجيب : بأنّ الاستثناء إنما وقع من أهل بيته كما مرّت الإشارة إليه وفي هذا الاسم لها معهم مشركة بحق الزواج وإن لم تشاركهم في الإيمان، فإن قيل : في الغابرين صفة لها كأنه قيل إلا عجوزاً في الغابرين غابرة ولم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم ؟
أجيب : بأنّ معناه إلا عجوزاً مقدّراً غبورها، أو في حكمهم كما مرت الإشارة إليه.
﴿ثم دمرنا﴾ أي : أهلكنا ﴿الآخرين﴾ أي : المؤخرين عن اتباع لوط وفي التعبير بلفظ الآخرين إشارة إلى تأخرهم من كل وجه، ثم لما كان المراد بقوله تعالى : دمرنا حكمنا بتدميرهم عطف عليه قوله :
﴿وأمطرنا عليهم مطراً﴾ قال وهب بن منبه : الكبريت والنار، وقال قتادة : أمطر الله تعالى على شذاذ القوم حجارة من السماء فأهلكتهم ﴿فساء مطر المنذرين﴾ اللام فيه للجنس
٧١
حتى يصح وقوع المضاف إلى المنذرين فاعل ساء وذلك لأنّ فاعل فعل الذمّ أو المدح يجب أن يكون معرفاً بلام الجنس، أو مضافاً إلى المعرف بلام الجنس ليحصل الإبهام المقصود ثم التفصيل ولا يأتي ذلك في لام العهد، والمخصوص بالذم محذوف وهو مطرهم.
﴿إن في ذلك﴾ أي : إنجاء لوط ومن معه وإهلاك هؤلاء الكفار الفجار ﴿لآية﴾ أي : دلالة عظيمة على ما يصدق الرسل في جميع ترغيبهم وترهيبهم، ولما كان من أتى بعد هذه الأمم كقريش ومن بعدهم قد علموا أخبارهم وضموا إلى تلك الأخبار نظر الديار والتوسم في الآثار، قال تعجباً من حالهم في ضلالهم ﴿وما﴾ أي : والحال أنه ما ﴿كان أكثرهم مؤمنين﴾ بما وقع لهؤلاء.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٠


الصفحة التالية
Icon