ولما كانت هذه الآية أوضح دلالة من بقيتها على البعث قال تعالى فيها ﴿لقوم يعقلون﴾ الدليل فيؤمنون وأبدى بعض المفسرين معنى لطيفاً فقال : إن المنصفين إذا نظروا في السموات والأرض وأنه لا بد لهما من صانع آمنوا وإذا نظروا في خلق أنفسهم ونحوها ازدادوا إيماناً فأيقنوا، فإذا نظروا في سائر الحوادث عقلوا واستحكم علمهم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٠١
ولما ذكر هذه الآيات العظيمات قال تعالى مشيراً إلى علو رتبتها بأداة البعد :
﴿تلك﴾ أي : الآيات المذكورة ﴿آيات الله﴾ أي : حجج المحيط بصفات الكمال التي لا شيء أجل منها الدالة على وحدانيته ﴿نتلوها﴾ أي : نقصها ﴿عليك﴾ سواء أكانت مرئية أو مسموعة ملتبسة ﴿بالحق﴾ أي : الأمر الثابت الذي لا يستطاع تحويله ليس بسحر ولا كذب ﴿فبأي حديث﴾ أي : خبر عظيم صادق يتجدد علمه به يستحق أن يتحدث به واستغرق كل حديث فقال تعالى ﴿بعد الله﴾ أي : حديث الملك الأعظم وهو القرآن ﴿وآياته﴾ أي : حججه ﴿يؤمنون﴾ أي : كفار مكة أي : لا يؤمنون، وقرأ ابن عامر وشعبة والكسائي بتاء الخطاب رأوا أن ذلك الخطاب صرف إلى خطاب
٧٠٢
النبي ﷺ في قوله تعالى ﴿نتلوها عليك بالحق﴾، والباقون بياء الغيبة ردوه على قوله تعالى ﴿وفي خلقكم﴾ وهو أقوى تبكيتاً.
ولما بين الآيات للكفار وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بها بعد ظهورها فبأي حديث بعدها يؤمنون ؟
أتبعه بوعيد عظيم لهم فقال تعالى :
﴿ويل لكل أفاك﴾ أي : مبالغ في صرف الحق عن وجهه ﴿أثيم﴾ أي : مبالغ في اكتساب الإثم وهو أن يبقى مصراً على الإنكار والاستكبار، قال المفسرون : يعني النضر ابن الحارث والآية عامة فيمن كان موصوفاً بهذه الصفة وفسر هذا بقوله تعالى :
﴿يسمع آيات الله﴾ أي : دلالات الملك الأعظم الظاهرة حال كونها ﴿تتلى عليه﴾ بجميع ما فيها وهي القرآن من سهولة فهمها وعذوبة ألفاظها وظهور معانيها وجلالة مقاصدها مع الإعجاز وهي القرآن العظيم، فكيف إذا كان التالي أشرف الخلق، وقرأ حمزة والكسائي بإمالة محضة وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح ﴿ثم يصر﴾ أي : يدوم دواماً عظيماً على قبح ما هو فيه حال كونه ﴿مستكبراً﴾ أي : طالباً للكبر عن الإذعان وموجداً له ﴿كأن﴾ أي : كأنه ﴿لم يسمعها﴾ أي : حاله عند السماع وقبله وبعده على حد سواء ﴿فبشره﴾ أي : على هذا الفعل الخبيث ﴿بعذاب أليم﴾ أي : مؤلم، والبشارة على الأصل أو التهكم، وقرأ ابن كثير وحفص ﴿أليم﴾ بالرفع والباقون بالجر.
﴿وإذا علم﴾ أي : بلغه ﴿من آياتنا﴾ أي : القرآن ﴿شيئاً﴾ وعلم أنه من آياتنا ﴿اتخذها هزواً﴾ أي : مهزواً بها.
تنبيه : في الضمير المؤنث وجهان ؛ أحدهما : أنه عائد على ﴿آياتنا﴾ يعني القرآن، والثاني : أنه يعود على ﴿شيئاً﴾ وإن كان مذكراً لأنه بمعنى الآية كقول أبي العالية :
*نفسي بشيء من الدنيا معلقة ** الله والقائم المهدي يكفيها*
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٠١
لأنه أراد بشيء جاريةً يقال لها : عنبة، والمعنى : اتخذ ذلك الشيء هزواً إلا أنه تعالى قال :﴿اتخذها﴾ للإشعار بأن هذا الرجل إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات المنزلة على محمد ﷺ خاض في الاستهزاء بجميع الآيات ولم يقتصر على الاستهزاء بذلك الواحد وقوله تعالى ﴿أولئك لهم عذاب مهين﴾ أي : ذو إهانة إشارة إلى معنى ﴿كل أفاك أثيم﴾ (الشعراء : ٢٢٢)
ليدخل فيه جميع الأفاكين، فحمل أولاً على لفظها فأفراد ثم على معناها فجمع كقوله تعالى ﴿كل حزب بما لديهم فرحون﴾ (الروم : ٣٢)
ثم وصف تعالى كيفية ذلك العذاب فقال :
﴿من ورائهم﴾ أي : أمامهم لأنهم في الدنيا ﴿جهنم﴾ قال الزمخشري : والوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام قال :
*أليس ورائي إن تراخت منيتي ** أدبّ مع الولدان أزحف كالنسر*
ومنه قوله تعالى ﴿من ورائهم﴾ أي : من قدامهم ا. ه ثم بين تعالى أن ما سلكوه في الدنيا لا ينفعهم بقوله تعالى :﴿ولا يغني﴾ أي : ولا يدفع ﴿عنهم ما كسبوا﴾ من الأموال في رحلهم ومتاجرهم والأولاد ﴿شيئاً﴾ من الإغناء. وقوله تعالى :﴿ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء﴾ أي :
٧٠٣
من الأوثان عطف على ﴿ما كسبوا﴾ و﴿ما﴾ فيهما إما مصدرية، أو بمعنى الذي أي : لا يغني عنهم كسبهم ولا اتخاذهم أو الذي كسبوه ولا الذي اتخذوه ﴿ولهم عذاب عظيم﴾ أي : لا يدع جهة من جهاتهم ولا زماناً من أزمانهم ولاعضواً من أعضائهم إلا ملأه، فإن قيل : قال تعالى في الأول ﴿مهين﴾ وفي الثاني ﴿عظيم﴾ فما الفرق بينهما ؟
أجيب : بأن كون العذاب مهيناً يدل على حصول العذاب مع الإهانة، وكونه عظيماً يدل على كونه بالغاً إلى أقصى الغايات في الضرر وقوله تعالى :
﴿هذا هدى﴾ إشارة إلى القرآن يدل عليه قوله تعالى ﴿والذين كفروا بآيات ربهم﴾ هي القرآن أي : هذا القرآن كامل في الهداية كما تقول : زيد رجل أي : كامل في الرجولية وأيما رجل ﴿لهم عذاب﴾ كائن ﴿من رجز﴾ أي : شديد العذاب ﴿أليم﴾ أي : بليغ الإيلام.


الصفحة التالية
Icon