ولما ذكر تعالى ذكر الربوبية ذكر بعض آثارها وما فيها من آياته فقال مستأنفاً دالاً على عظمتها بالاسم الأعظم :
﴿الله﴾ أي : الملك الأعلى المحيط بجميع صفات الكمال ﴿الذي سخر﴾ أي : وحده من غير حول منكم ولا قوة في ذلك بوجه من الوجوه ﴿لكم البحر﴾ أيها الناس بركم وفاجركم بما جعل فيه مما لا يقدر عليه إلا واحد لا شريك له فاعل بالاختيار من القابلية للسير فيه من الرقة والليونة ﴿لتجري الفلك﴾ أي : السفن ﴿فيه بأمره﴾ أي : بإذنه ولو كانت موقرة بأثقال الحديد الذي يغوص فيه أخف شيء منه كالإبرة وما دونها، ففي ذلك دلالة ظاهرة على وحدانيته لأن جريان الفلك على وجه الماء لا يحصل إلا بثلاثة أشياء ؛ أحدها : الرياح التي توافق المراد، وثانيها : خلق وجه الماء على الملامسة التي تجري عليها الفلك، وثالثها : خلق الخشبة على وجه تبقى طافية على وجه الماء ولا تغرق فيه، وهذه الأحوال لا يقدر عليها أحد من البشر ﴿ولتبتغوا﴾ أي : تطلبوا بشهوة نفس واجتهاد بما تحملون فيه من البضائع وتتوصلون إليه من الأماكن والمقاصد بالصيد والغوص على اللؤلؤ والمرجان وغير ذلك ﴿من فضله﴾ لم يصنع شيئاً منه سواه ﴿ولعلكم تشكرون﴾ نعمه على ذلك.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٠١
وسخر لكم ما في السموات﴾
من شمس وقمر ونجم بها وغير ذلك بحيث لا يمكنكم الوصول إليه بوجه ﴿وما في الأرض﴾ من دابة وشجر ونبات وأنهار وغيره ولو شاء لجعله كما في السماء لا وصول لكم إليه وقوله تعالى ﴿جميعاً﴾ توكيد لما دل عليه معنى ما من العموم وقيل : حال من ﴿ما في السموات وما في الأرض﴾ وقوله تعالى ﴿منه﴾ حال أي : سخرها كائنة منه تعالى لا صنع لأحد غيره في شيء من ذلك، قال ابن عباس : كل ذلك رحمة منه، وقال الزجاج : كل ذلك تفضل منه وإحسان، وقال بعض العارفين : سخر لك الكل لئلا يسخرك لشيء منها فتكون مسخراً لمن سخر لك الكل وهو الله تعالى فإنه يقبح بالمخدوم أن يخدم خادمه ﴿إن في ذلك﴾ أي : الأمر العظيم من تسخيره لنا كل شيء في الكون ﴿لآيات﴾ أي : دلالات واضحات على أنهم في الالتفات إلى غيره في ضلال مبين بعد تسخيره لنا ما لنا من الأعضاء والقوى على هذا الوجه البديع مع أن من هذا المسخر لنا ما هو أقوى منا ﴿لقوم﴾ أي : ناس فيهم أهلية القيام بما يجعل إليهم ﴿يتفكرون﴾ فيعلمون أنه المتوحد باستحقاق الإلهية فلا يشركون به شيئاً واختلف في سبب نزل قوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٠١
٧٠٤
﴿قل﴾ أي : يا أفضل الخلق ﴿للذين آمنوا﴾ ادعوا التصديق بكل ما جاءهم عن الله تعالى ﴿يغفروا﴾ أي : يستروا ستراً بالغاً ﴿للذين لا يرجون أيام الله﴾ أي : مثل وقائع الملك الأعظم المحيط بصفة الكمال، فقال ابن عباس :"نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك أنهم نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال لها : المريسيع، فأرسل عبد الله بن أبيّ غلامه ليستقي الماء فأبطأ عليه فلما أتاه قال له ما حبسك ؟
قال غلام عمر : قعد على طرف البئر فما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قرب النبي ﷺ وقرب أبي بكر رضي الله عنه، فقال عبد الله : ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل : سمن كلبك يأكلك، فبلغ ذلك عمر فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية".
وقال مقاتل : إن رجلاً من بني غفار شتم عمر بمكة فهم عمر أن يبطش به، فنزلت بالغفر والتجاوز، وروى ميمون بن مهران :"أن فتحاص اليهودي لما نزل قوله تعالى ﴿من ذا الذي يقرض الله قرضااًحسناً﴾ (البقرة : ٢٤٥)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٠٤
قال : احتاج رب محمد فسمع ذلك عمر فاشتمل على سيفه وخرج في طلبه فبعث النبي ﷺ إليه فرده".
وقال القرطبي والسدي :"نزلت في ناس من أصحاب رسول الله ﷺ من أهل مكة كانوا في أذى كثير من المشركين قبل أن يؤمروا بالقتال فشكوا ذلك إلى رسول الله ﷺ فنزلت". ثم نسختها آية القتال، قال الرازي : وإنما قالوا بالنسخ لأنه يدخل تحت الغفران أن لا يقتلوا ولا يقاتلوا، فلما أمر الله تعالى بالمقاتلة كان نسخاً والأقرب أن يقال إنه محمول على ترك المنازعة وعلى التجاوز فيما يصدر عنهم من الكلمات المؤذية، وقال ابن عباس : لا يرجون أيام الله أي : ثوابه ولا يخافون عقابه ولا يخشون مثل عذاب الأمم الماضية وتقدم تفسير أيام الله عند قوله تعالى ﴿وذكرهم بأيام الله﴾ (إبراهيم : ٥)
وقوله تعالى ﴿ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون﴾ علة للأمر، والقوم : هم المؤمنون أو الكافرون أو كلاهما فيكون التنكير للتعظيم أو التحقير أو التنويع أو لكسب المغفرة أو الإساءة أو ما يعمهما، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالنون لنجزي نحن بما لنا من العظمة، والباقون بالياء التحتية أي : ليجزي الله سبحانه وتعالى.


الصفحة التالية
Icon