ولما رغب سبحانه وتعالى ورهب وقرر أنه لا بد من الجزاء زاد في الترغيب والترهيب بأن النفع والضر لا يعدوهم فقال تعالى شارحاً للجزاء :
﴿من عمل صالحاً﴾ قل أو جل ﴿فلنفسه﴾ أي : خاصة عمله يرى جزاءه في الدنيا والآخرة وهو مَثَل ضربه الله تعالى للذين يغفرون ﴿ومن أساء﴾
٧٠٥
كذلك ﴿فعليها﴾ خاصة إساءته كذلك، وهذا مثل ضربه الله تعالى للكفار الذين كانوا يؤذون الرسول والمؤمنين، وذلك في غاية الظهور لأنه لا يسوغ في عقل عاقل أن ملكاً يدع عبيده من غير جزاء ولا سيما إذا كان حكيماً، وإن كانت نقائص النفوس غطت على كثير من العقول ذلك ﴿ثم﴾ أي : بعد الابتلاء بالإملاء في الدنيا والحبس في البرزخ ﴿إلى ربكم﴾ أي : الملك المالك لكم لا إلى غيره ﴿ترجعون﴾ أي : تصيرون فيجازي المصلح والمسيء.
﴿ولقد آتينا﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿بني إسرائيل الكتاب﴾ أي : الجامع للخيرات وهو يعم التوراة والإنجيل والزبور وغيرها مما أنزل على أنبيائهم عليهم السلام ﴿والحكم﴾ أي : العلم والعمل الثابتين ثبات الأحكام بحيث لا يتطرق إليهما فساد بما للعلم من الزينة بالعمل وللعمل من الإتقان بالعلم ﴿والنبوة﴾ التي تدرك بها الخيرات العظيمة التي لا يمكن إبلاغ الخلق إليها بلوغ اكتساب منهم فأكثرنا فيهم من الأنبياء عليهم السلام.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٠٤
ورزقناهم﴾
بما لنا من العظمة لإقامة أبدانهم ﴿من الطيبات﴾ أي : الحلالات من المن والسلوى وغيرهما ﴿وفضلناهم﴾ أي : بما لنا من العزة ﴿على العالمين﴾ قال أكثر المفسرين : علامي زمانهم، وقال ابن عباس : لم يكن أحد من العالمين أكرم على الله ولا أحب إليه منهم، أي : لما آتاهم من الآيات المرئية والمسموعة وأكثر فيهم من الأنبياء مما لم يفعله بغيرهم ممن سبق وكل ذلك فضيلة ظاهرة.
﴿وآتيناهم﴾ مع ذلك ﴿بينات من الأمر﴾ أي : الموحى به إلى أنبيائهم من الأدلة القطعية والأحكام والمواعظ المؤيدة بالمعجزات ومن صفات الأنبياء الآتين بعدهم وغير ذلك مما هو في غاية الوضوح لمن قضينا بسعادته، وذلك أمر يقتضي الألفة والاجتماع وقد كانوا متفقين وهم في زمن الضلال لا يختلفون إلا اختلافاً يسيراً لا يضر مثله ولا يعد اختلافاً، فلما جاءهم العلم اختلفوا كما قال تعالى ﴿فما اختلفوا﴾ أي : أوقعوا الاختلاف والافتراق بغاية جهدهم ﴿إلا من بعد ما جاءهم العلم﴾ أي : الذي من شأنه الجمع على المعلوم فكان ما هو سبب الاجتماع سبباً لهم في الافتراق ﴿بغياً﴾ أي : للمجاوزة في الحدود التي اقتضاها لهم طلب الرياسة والحسد وغيرهما من نقائص النفوس ﴿بينهم﴾ أي : واقعاً فيهم لم يعدهم إلى غيرهم وقد كانوا قبل ذلك وهم تحت أيدي القبط في غاية الاتفاق واجتماع الكلمة على الرضا بالذل، ولذلك استأنف قوله تعالى الذي اقتضاه الحال على ما يشاهده العباد من أفعال الملوك فيمن خالف أمرهم مؤكداً لأجل إنكارهم ﴿إن ربك﴾ أي : المحسن إليك ﴿يقضي بينهم﴾ أي : بإحصاء الأعمال والجزاء عليها ﴿يوم القيامة﴾ أي : الذي ينكره قومك الذين شرفناهم برسالتك ﴿فيما كانوا﴾ أي : لما هو لهم كالجبلة ﴿فيه يختلفون﴾ بغاية الجهد، والمعنى : أنه لا ينبغي للمبطل أن يفرح بنعم الدنيا فإنها وإن ساوت نعم المحق أو زادت عليها فإنه سيرى في الآخرة ما يسوءه وذلك كالزجر لهم.
ولما بين تعالى أنهم أعرضوا عن الحق بغياً وحسداً أمر رسوله ﷺ أن يعدل عن تلك الطريقة وأن يتمسك بالحق وأن لا يكون له غرض سوى إظهار الحق فقال تعالى :
﴿ثم﴾ أي : بعد فترة من رسلهم ومجاوزة رتب كثيرة عالية على رتبة شريعتهم ﴿جعلناك﴾ أي : بما لنا من العزة والقدرة ﴿على شريعة﴾ أي : طريقة واسعة عظيمة ظاهرة مستقيمة سهلة موصلة إلى المقصود هي جديرة بأن يشرع الناس فيها ويخالطوها مبتدأة ﴿من الأمر﴾ أي : أمر الدين الذي هو حياة الأرواح كما أن
٧٠٦
الأرواح حياة الأشباح ﴿فاتبعها﴾ أي : اتبع بغاية جهدك شريعتك الثابتة بالحجج ﴿ولا تتبع أهواء﴾ أي : آراء ﴿الذين لا يعلمون﴾ أي : لا علم لهم أو لهم علم لكنهم يعملون عمل من ليس لهم علم أصلاً من كفار العرب وغيرهم، قال الكلبي :"إن رؤساء قريش قالوا للنبي ﷺ وهو بمكة : ارجع إلى دين آبائك فهم كانوا أفضل منك وأسن فأنزل الله تعالى هذه الآية". ثم علل هذا النهي مهدداً بقوله تعالى مؤكداً :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٠٤


الصفحة التالية
Icon