إنهم} وأكد النفي فقال عز من قائل ﴿لن يغنوا عنك﴾ أي : لا يتجدد لهم نوع إغناء مبتدأ ﴿من الله﴾ أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿شيئاً﴾ أي : من إغناء أي : إن اتبعتهم، كما أنهم لن يقدروا لك على شيء من أذى إن خالفتهم وناصبتهم ﴿وإن الظالمين﴾ أي : الغريقين في هذا الوصف وهم الكفرة، وكان الأصل : وإنهم ولكنه تعالى أظهر للإعلام بوصفهم ﴿بعضهم أولياء بعض﴾ إذ الجنسية علة الانضمام فلا توالوهم باتباع أهوائهم ﴿والله﴾ أي : الذي له صفات الكمال ﴿وليّ المتقين﴾ أي : الذين همهم الأعظم الاتصاف باتخاذ الوقايات المنجية لهم من سخط الله تعالى، والمعنى : أن الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا وأما في الآخرة فلا ولي لهم ينفعهم في إيصال الثواب وإزالة العقاب، وأما المتقون المهتدون فالله سبحانه وليهم وناصرهم.
﴿هذا﴾ أي : الوحي المنزل وهو القرآن ﴿بصائر﴾ أي : معالم ﴿للناس﴾ أي : في الحدود والأحكام فيبصروا بها ما ينفعهم وما يضرهم ﴿وهدى﴾ أي : قائد إلى كل خير مانع من كل زيغ ﴿ورحمة﴾ أي : كرامة وفوز ونعمة ﴿لقوم يوقنون﴾ أي : ناس فيهم قوة القيام بالوصول إلى العلم الثابت وتجديد الترقي في درجاته إلى ما لا نهاية له وقوله تعالى :
﴿أم حسب﴾ منقطعة فتقدر ببل والهمزة أو ببل وحدها أو بالهمزة وحدها ومعنى الهمزة فيها : إنكار الحسبان ﴿الذين اجترحوا﴾ أي : اكتسبوا ومنه الجوارح وفلان جارحة أهله أي : كاسبهم وقال تعالى ﴿ويعلم ما جرحتم بالنهار﴾ (الأنعام : ٦٠)
﴿السيئات﴾ أي : الكفر والمعاصي ﴿أن نجعلهم﴾ أي : بما لنا من العظمة المانعة من الظلم المقتضية للحكمة ﴿كالذين آمنوا وعملوا﴾ تصديقاً لإقرارهم ﴿الصالحات﴾ أي : بأن نتركهم بغير حساب للفصل بين المحسن والمسيء.
ولما كانت المماثلة مجملة بينها استئنافاً بقوله تعالى :﴿سواء﴾ أي : مستو استواء عظيماً ﴿محياهم ومماتهم﴾ أي : حياتهم وموتهم وزمان ذلك ومكانه في الارتفاع والسفول واللذة والكدر وغير ذلك من الأعيان والمعاني، وقرأ حمزة والكسائي وحفص سواء بالنصب على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهما كالذين آمنوا، ويكون المفعول الثاني للجعل كالذين آمنوا أي : أحسبوا أن نجعلهم مثلهم في حال استواء محياهم ومماتهم ليس الأمر كذلك، وقرأه الباقون بالرفع على أنه خبر ومحياهم ومماتهم مبتدأ ومعطوف والجملة بدل من الكاف والضميران للكفار، والمعنى : أحسبوا أن نجعلهم في الآخرة في خير كالمؤمنين أي : في رغد من العيش مساوٍ لعيشهم في الدنيا حيث قالوا للمؤمنين : لئن بعثنا لنعطي من الخير مثل ما تعطون، قال تعالى على وفق إنكاره بالهمزة ﴿ساء ما يحكمون﴾ أي : ليس الأمر كذلك فهم في الآخرة في العذاب على خلاف عيشهم في الدنيا والمؤمنون في الآخرة في الثواب بأعمالهم الصالحات في الدنيا من الصلاة والزكاة والصيام وغير ذلك، وما مصدرية أي : بئس حكماً حكمهم هذا.
٧٠٧
ولما بين تعالى أن المؤمن لا يساويه الكافر في درجات السعادة أتبعه بالدلائل الظاهرة على صحة ذلك فقال تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٠٤
وخلق الله﴾
أي : الذي له جميع أوصاف الكمال ﴿السموات والأرض﴾ وقوله تعالى ﴿بالحق﴾ متعلق بخلق وقوله تعالى ﴿ولتجزى﴾ أي : بأيسر أمر ﴿كل نفس﴾ أي : منكم ومن غيركم معطوف على بالحق في المعنى لأن كلاً منهما سبب فعطف العلة على مثلها أو أنه معطوف على معلل محذوف والتقدير : خلق هذا العالم إظهاراً للعدل والرحمة، وذلك لا يتم إلا إذا حصل البعث والقيامة وحصل التفاوت بين الدرجات والدركات من المحقين والمبطلين ﴿بما﴾ أي : بسبب ما ﴿كسبت﴾ من خير أو شر ﴿وهم﴾ أي : والحال أنهم ﴿لا يظلمون﴾ أي : لا يوجد من موجد ما في وقت من الأوقات جزاء لهم في غير موضعه هذا على ما جرت به عوائدكم في العدل والفضل، ولو وجد منه سبحانه وتعالى غير ذلك لم يكن ظلماً منه لأنه المالك المطلق والملك الأعظم، فلو عذب أهل سماواته وأهل أرضه كلهم لكان غير ظالم في نفس الأمر، فهذا الخطاب إنما هو على ما يتعارفونه من إقامة الحجة بمخالفة الأمر ثم عاد سبحانه وتعالى إلى شرح أحوال الكفار وقبائح طرائقهم فقال :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٠٤
﴿أفرأيت﴾ أي : أعلمت علماً هو في تيقنه كالمحسوس بحاسة البصر التي هي أثبت الحواس ﴿من اتخذ﴾ أي : بغاية جهده ﴿إلهه هواه﴾ أي : ما يهواه من حجر بعد حجر يراه أحسن، روي عن أبي رجاء العطاردي وهو ثقة أدرك الجاهلية ومات سنة خمس ومائة عن مائة وعشرين سنة قال : كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجراً أحسن منه ألقيناه وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجراً جمعنا حثوة من تراب فحلبنا عليها ثم طفنا بها. قال الأصفهاني : سئل ابن المقفع عن الهوى فقال : هوان سرقت نونه فنظمه من قال :
٧٠٨
*نون الهوان من الهوى مسروقة ** فأسير كل هوى أسير هوان*
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٠٨
وقال آخر أيضاً :


الصفحة التالية
Icon