﴿من قبل هذا﴾ أي : القرآن الذي أنزل علي كالتوراة والإنجيل والزبور، وهذا من أعلام النبوّة، فإنها كلها شاهدة بالوحدانية لو أتى بها آت لشهدت عليه. ولما ذكر تعالى الأعلى الذي لا يجب التكليف إلا به وهو : النقل القاطع، سهل عليهم فنزل إلى ما دونه فقال :﴿أو أثارة﴾ أي : بقية ﴿من علم﴾ يؤثر عن الأولين بصحة دعواكم في عبادة الأصنام : أنها تقرّبكم إلى الله تعالى : وقال المبرد :﴿أثارة﴾ ما يؤثر من علم كقولك هذا الحديث يؤثر عن فلان. ومن هذا المعنى سميت الأخبار بالآثار. يقال : جاء في الأثر كذا وكذا. وقال الواحدي : وكلام أهل اللغة في هذا الحرف يدور على ثلاثة أقوال ؛ الأوّل : الأثارة واشتقاقها من : أثرت الشيء أثيره إثارة كأنها بقية تستخرج فتثار. والثاني : من الأثر الذي هو الرواية. والثالث : من الأثر بمعنى العلامة. وقال الكلبي في تفسير الأثارة : أي بقية من علم يؤثر عن الأوّلين أي : يسند إليهم وقال مجاهد وعكرمة ومقاتل : رواية عن الأنبياء قال الرازي : وههنا قول آخر : أو أثارة من علم هو علم الخط الذي يخط في الرمل، والعرب كانوا يخطونه وهو علم مشهور روي أنه ﷺ قال :"كان نبيّ من الأنبياء يخط فمن وافق خطه خطه علم علمه" فعلى هذا الوجه معنى الآية ﴿أئتوني بعلم من قبل هذا﴾ الخط الذي تخطونه في الرمل يدل على صحة مذهبكم في عبادة الأصنام فإن صح تفسير الآية بهذا الوجه كان ذلك من باب التهكم بهم وأقوالهم ودلائلهم. ثم أشار إلى تقريعهم بالكذب إذ لم يقيموا دليلاً على دعواهم بقوله :﴿إن كنتم صادقين﴾ أي : عريقين في الصدق على ما تدّعون لأنفسكم. ولما أبطل سبحانه قولهم في الأصنام بعدم قدرتها أتبعه إبطاله بعدم علمها بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧١٤
ومن أضلّ﴾ وهو استفهام بمعنى النفي أي : لا أحد أضل ﴿ممن يدعو﴾ أي : يعبد ما لا قدرة له ولا علم. ومن انتفت قدرته وعلمه لم تصح عبادته ببديهة العقل. وأرشد إلى سفولها بقوله عز وجل. ﴿من دون الله﴾ أي : من أدنى رتبة من رتب الذي له صفات الكمال فهو يعلم كل شيء.
٧١٥
ويقدر على كل شيء فهو بحيث يجيب الدعاء، ويكشف البلاء ويحقق الرجاء إذا شاء، ويدبر عبده لما يعلم من سرّه وعلنه بما لا يقدر هو على تدبير نفسه به، ويريد العبد في كثير من الأشياء ما لو وكل فيه إلى نفسه، وأجيب إلى طلبته، كان فيه حتفه فيدبره سبحانه بما تشتدّ كراهته له، فيكشف الحال على أنه لم يكن له فرج إلا فيه. ﴿من لا يستجيب له﴾ أي : لا توجد الإجابة، ولا يطلب إيجادها من الأصنام وغيرها، لأنه لا أهلية له لذلك. والمعنى : أنه لا أحد أبعد عن الحق وأقرب إلى الجدل، ممن يدعو من دون الله الأصنام، فيتخذها آلهة ويعبدها وهي إذا دعيت لا تسمع ولا تجيب لا في الحال، ولا في المآل ﴿إلى يوم القيامة﴾ وإنما جعل ذلك غاية ؛ لأنّ يوم القيامة قد قيل : إن الله تعالى يحييها ويخاطب من يعبدها. فلذلك جعله الله تعالى حدّاً وقيل المراد عبدة الملائكة وعيسى وأنهم يوم القيامة يظهرون عبادة هؤلاء العابدين. ﴿وهم عن دعائهم﴾ أي : دعاء المشركين إياهم. ﴿غافلون﴾ أي : لهم هذا الوصف لا ينفكون عنه لا يعلمون من يدعوهم ومن لا يدعوهم وعبر بالغفلة التي هي من أوصاف العقلاء للجماد تغليباً إن كان المراد أعمّ من الأصنام وغيرها مما عبدوه من عقلاء الإنس وغيرهم ولما غيّا سبحانه بيوم القيامة فأفهم أنهم يستجيبون لهم فيه، بيّن ما يحاورونهم به إذ ذاك. فقال تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧١٤
ومن أضلّ} وهو استفهام بمعنى النفي أي : لا أحد أضل ﴿ممن يدعو﴾ أي : يعبد ما لا قدرة له ولا علم. ومن انتفت قدرته وعلمه لم تصح عبادته ببديهة العقل. وأرشد إلى سفولها بقوله عز وجل. ﴿من دون الله﴾ أي : من أدنى رتبة من رتب الذي له صفات الكمال فهو يعلم كل شيء.
٧١٥