جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣
تنبيه : جاء وأتى يستعملان في معنى فعل فيعديان تعديته، وظلماً مفعول به، وقيل : إنه على إسقاط الخافض أي : جاؤوا بظلم.
الشبهة الثانية : قوله تعالى :
﴿وقالوا أساطير الأولين﴾ أي : ما سطره الأولون من أكاذيبهم جمع أسطورة بالضم كأحدوثة، أو أسطار ﴿اكتتبها﴾ أي : تطلب كتابتها له من ذلك القوم وأخذها، والمعنى أن هذا القرآن ليس من الله تعالى إنما هو مما سطره الأولون الأول كأحاديث رستم واسفنديار استنسخها محمد من أهل الكتاب ﴿فهي﴾ أي : فتسبب عن تكلفه ذلك أنها ﴿تملى عليه﴾ أي : تقرأ عليه ليحفظها ﴿بكرة﴾ قبل أن تنتشر الناس ﴿وأصيلا﴾ أي : عشياً حين يأوون إلى مساكنهم، أو دائماً ليتكلف حفظها بالانتساخ ؛ لأنه أمي لا يقدر أن يكرر من الكتاب، أو ليكتب وهذا كما ترى لا يقوله من له مسكة في عقل، أو مروءة كيف وهو يدعوهم إلى المعارضة ولو بسورة من مثله وفيهم الكتاب والشعراء والبلغاء والخطباء، وهم أكثر منه مالاً وأعظم أعواناً ولا يقدرون على شيء منه، فإن قيل : كيف ؟
قيل : اكتتبها فهي تملى عليه، وإنما يقال : أمليت عليه فهو يكتبها ؟
أجيب : بوجهين : أحدهما : أراد اكتتابها وطلبه، فهي تملى عليه، الثاني : أنها كتبت له وهو أمي فهي تملى أي : تلقى عليه من كتاب ليحفظها ؛ لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب، وقرأ ﴿فهي﴾ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء، والباقون بكسرها، ثم أمره الله تعالى بجوابهم بقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣
﴿قل﴾ أي : دالاً على بطلان ما قالوه ومهدداً لهم ﴿أنزله الذي يعلم السر﴾ أي : الغيب ﴿في السموات والأرض﴾ ؛ لأنه أعجزكم عن آخركم بفصاحته وتضمنه أخباراً عن مغيبات مستقبلة وأشياء مكنونة لا يعلمها إلا عالم الأسرار، فكيف تجعلونه أساطير الأولين مع علمكم أن ما تقولونه باطل وزور ؟
وكذلك باطن رسول الله ﷺ وبراءته مما يبهتونه، وهو يجازيكم على ما علم منكم وعلم منه.
فإن قيل : كيف يطابق هذا قوله تعالى :﴿إنه كان﴾ أي : أزلاً وأبداً ﴿غفوراً رحيماً﴾ ؟
أجيب : بأنه لما كان ما يقدمه في معنى الوعيد عقبه بما يدل على القدرة عليه ؛ لأنه لا يوصف بالرحمة والمغفرة إلا القادر على العقوبة، أو هو تنبيه على أنهم استوجبوا بمكابرتهم هذه أن يصب عليهم العذاب صباً، ولكن صرف ذلك عنهم ؛ لأنه غفور رحيم يمهل ولا يعاجل.
الشبهة الثالثة : قوله تعالى :
﴿وقالوا ما لهذا الرسول﴾ أي : ما لهذا الذي يزعم الرسالة، وفيه استهانة وتهكم وتصغير لشأنه، وتسميته بالرسول سخرية منه كأنهم قالوا : ما لهذا الزاعم أنه رسول، ونحوه قول فرعون :﴿إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون﴾ (الشعراء، ٢٧)، أي : إن صح أنه رسول الله فما باله حاله مثل حالنا ﴿يأكل الطعام﴾ أي : كما نأكله ﴿ويمشي﴾ أي : ويتردد ﴿في الأسواق﴾ لطلب المعاش كما نمشي، فلا يجوز أن يمتاز عنا بالنبوة يعنون : أنه يجب أن يكون
ملكاً مستغنياً عن الأكل والشرب والتعيش، وكذلك كانوا يقولون له : لست أنت بملك ؛ لأنك تأكل الطعام، والملك لا يأكل، ولأن الملك لا يتسوق وأنت تتسوق، وما قالوه فاسد ؛ لأن أكله الطعام لكونه آدمياً ومشيه في الأسواق لتواضعه، وكان ذلك صفته في التوراة، ولم يكن صخاباً في الأسواق، وليس شيء من ذلك ينافي النبوة، ولأنه لم يدع أنه ملك من الملوك، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكاً إلى اقتراح أن يكون إنساناً معه ملك حتى يسانده في الإنذار والتخويف، فقالوا :﴿لولا﴾ أي : هلا ﴿أنزل إليه ملك﴾ أي : يصدقه ويشهد له ﴿فيكون معه نذيراً﴾ أي : داعياً، ثم نزلوا أيضاً إلى أنه لم يكن مرفوداً بملك، فليكن مرفوداً بكنز، فقالوا :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦
أو يلقى إليه كنز﴾
أي : ينزل عليه كنز من السماء ينفقه فلا يحتاج إلى المشي في الأسواق لطلب المعاش، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون رجلاً له بستان، فقالوا :﴿أو تكون له جنة﴾ أي : بستان ﴿يأكل منها﴾ أي : إن لم يلق إليه كنز فلا أقل أن يكون له بستان كالمياسير فيتعيش بريعه، وقرأ حمزة والكسائي بالنون أن نأكل نحن منها فيكون له مزية علينا بها، والباقون بالياء وقوله تعالى :﴿وقال الظالمون﴾ وضع فيه الظاهر موضع المضمر إذ الأصل وقالوا تسجيلاً عليهم بالظلم فيما قالوا ﴿إن﴾ أي : ما ﴿تتبعون إلا رجلاً مسحوراً﴾ أي : مخدوعاً مغلوباً على عقله، وقيل : مصروفاً عن الحق، ولما أنهى تعالى ما ذكر من أقوالهم الناشئة عن ضلالهم التفت سبحانه وتعالى إلى رسوله ﷺ مسلياً له بقوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon