﴿انظر﴾ أي : يا أفضل الخلق ﴿كيف ضربوا لك الأمثال﴾ أي : بالمسحور والمحتاج إلى ما ينفقه وإلى ملك يقوم معه بالأمر ﴿فضلوا﴾ أي : بذلك عن جميع طرق الهدى ﴿فلا يستطيعون﴾ أي : في الحال ولا في المآل بسبب الضلال ﴿سبيلاً﴾ أي : سلوك سبيل من السبل الموصلة إلى ما يستحق أن يقصد، بل هم في مجاهل موحشة وفيافي مهلكة، ولما أثبت أنهم لا علم لهم ولا قدرة ولا يمن ولا بركة أثبت لنفسه سبحانه وتعالى ما يستحق من الكمال الذي يفيض به على من يشاء من عباده ما يشاء بقوله تعالى :
﴿تبارك﴾ أي : ثبت ثباتاً مقترناً باليمن والبركة لا ثبات إلا هو ﴿الذي إن شاء﴾ فإنه لا مكره له ﴿جعل لك﴾ أي : في الدنيا ﴿خيراً من ذلك﴾ أي : من الذي قالوه على طريق التهكم من الكنز والبستان، وقوله تعالى :﴿جنات﴾ بدل من خيراً، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار أعني، ثم وصفها بقوله تعالى :﴿تجري من تحتها الأنهار﴾ أي : تكون أرضها عيوناً نابعة أي : في أي موضع أريد منه إجراء نهر جرى، فهي لا تزال رياً تغني صاحبها عن كل حاجة ولا تحوجة في استمرارها إلى سقي ﴿ويجعل لك قصوراً﴾ أيضاً وهي جمع قصر، وهو المسكن الرفيع، قال المفسرون : القصور هي البيوت المشيدة، والعرب تسمي كل بيت مشيد قصراً، ويحتمل أن يكون لكل جنة قصر، فيكون مسكناً ومنتزهاً، ويجوز أن تكون القصور مجموعة والجنات مجموعة، وقال مجاهد : إن شاء جعل جنات في الآخرة وقصوراً في الدنيا، ولم يشأ الله سبحانه وتعالى ما أشار إليه في هذه الآية الشريفة في هذه الدنيا الفانية وأخره إلى الآخرة الباقية، وقد عرض عليه سبحانه وتعالى ما شاء في ذلك في الدنيا فأباه.
روي أنه عليه الصلاة والسلام قال :"عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً فقلت : لا يا رب ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، أو قال : ثلاثاً أو نحو هذا فإذا جعت تضرعت إليك، وإذا
شبعت حمدتك وشكرتك"، وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله ﷺ "لو شئت لسارت معي جبال مكة ذهباً جاءني ملك فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك : إن شئت نبياً عبداً وإن شئت نبياً ملكاً، فنظرت إلى جبريل عليه السلام فأشار إلي أن ضع نفسك، فقلت : نبياً عبداً، قالت : وكان النبي ﷺ بعد ذلك لا يأكل متكئاً، ويقول : آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد".
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦
وعن ابن عباس قال :"بينما رسول الله ﷺ جالس وجبريل عليه السلام معه، فقال جبريل عليه السلام : هذا ملك قد نزل من السماء استأذن ربه في زيارتك، فلم يلبث إلا قليلاً حتى جاء الملك وسلم على رسول الله ﷺ وقال : إن الله يخيرك أن يعطيك مفاتيح كل شيء لم يعطه أحداً قبلك، ولا يعطيه أحداً بعدك من غير أن ينقصك مما أداك شيئاً، فقال ﷺ "بل يجمعها لي في الآخرة" فنزل ﴿تبارك الذي إن شاء﴾ الآية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة برفع اللام من يجعل، وفيه وجهان : أحدهما : أنه مستأنف، والثاني : أنه معطوف على جواب الشرط ؛ لأن الشرط إذا وقع ماضياً جاز في جوابه الجزم والرفع كقوله :
*وإن أتاه خليل يوم مسألة
** يقول لا غائب مالي ولا حرم
والباقون بالجزم، ويجوز في ﴿يجعل لك﴾ إذا أدغمت أن تكون اللام في تقدير الجزم والرفع، ثم أضرب سبحانه وتعالى عن كلامهم في حق رسوله محمد ﷺ بقوله تعالى :
﴿بل﴾ أي : لا يظنوا أنهم كذبوا بما جئت به ؛ لأنهم لا يعتقدون فيك كذباً بل ﴿كذبوا بالساعة﴾ أي : القيامة، فقصرت أنظارهم على الحطام الدنيوي، وظنوا أن الكرامة إنما هي بالمال فلا يرجون ثواباً ولا عقاباً، فلا يتكلفون النظر والفكر، ولهذا لا ينتفعون بما يورد عليهم من الدلائل ﴿وأعتدنا﴾ أي : والحال أنا اعتدنا أي : هيأنا بما لنا من العظمة ﴿لمن كذب﴾ من هؤلاء وغيرهم ﴿بالساعة سعيراً﴾ أي : ناراً شديدة الاتقاد بما أعظموا الحريق في قلوب من كذبوهم من الأنبياء وأتباعهم، وعن الحسن : أن السعير اسم من أسماء جهنم.
تنبيه : احتج أهل السنة على أن الجنة مخلوقة بقوله تعالى :﴿أعدت للمتقين﴾ (آل عمران، ١٣٣)
وعلى أن النار وهي دار العقاب مخلوقة بهذه الآية :
﴿إذا رأتهم من مكان بعيد﴾ وهو أقصى ما تمكن رؤيتها منه، وقال الكلبي والسدي : من مسيرة عام، وقيل : من مسيرة مائة سنة، روي أنه ﷺ قال :"من كذب علي متعمداً فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً، قالوا : وهل لها من عينين ؟
قال : نعم، ألم تسمع قوله تعالى : إذا رأتهم من مكان بعيد".


الصفحة التالية
Icon