وقال البيضاوي : تبعاً للزمخشري : إذا كانت بمرأى منهم كقوله عليه الصلاة والسلام : لا "تراءي ناراهما" أي لا تتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى على المجاز. انتهى، وهذا تأويل للمعتزلة بناء منهم على أن الرؤية مشروطة بالحياة بخلاف الأشاعرة فإنهم يجوزون رؤيتها حقيقة كتغيظها وزفيرها في قوله تعالى :﴿سمعوا لها تغيظاً﴾ أي : غلياناً كالغضبان إذ غلى صدره من الغضب ﴿وزفيراً﴾ أي : صوتاً شديداً إذ لا امتناع من أنها تكون رائية مغتاظة زافرة، وأشار البيضاوي إلى ذلك بعد ما ذكر بقوله : هذا. وإن الحياة لما لم تكن مشروطة عندنا بالبينة أمكن أن يخلق الله فيها حياة فترى وتتغيظ وتزفر، وقال الجلال المحلي : وسماع التغيظ رؤيته وعلمه انتهى. قال عبد الله بن عمر : تزفر جهنم يوم القيامة زفرة فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر لوجهه، وقيل : إذا رأتهم زبانيتها تغيظوا وزفروا غضباً عل الكفار للانتقام منهم، فنسب إليها على حذف مضاف.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦
وإذا ألقوا﴾ أي : طرحوا طرح إهانة ﴿منها﴾ أي : النار ﴿مكاناً﴾ ثم وصفه تعالى بقوله تعالى :﴿ضيقاً﴾ زيادة في فظاعتها، قال ابن عباس : يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح ﴿مقرنين﴾ أي : مصفدين زيادة قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم من الأغلال، وقد قيل : الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة، ولذلك وصف الله تعالى الجنة بأن عرضها السموات والأرض، وجاء في الأحاديث أن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا، ولقد جمع الله تعالى على أهل النار أنواع الضيق والإرهاق حيث ألقاهم في مكان ضيق يتراصون فيه تراصاً كما مر عن ابن عباس : أنه يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح، وهو منقول أيضاً عن ابن عمر، وسئل النبي ﷺ عن ذلك فقال :"والذي نفسي بيده إنهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط، وهم مع ذلك الضيق مسلسلون مقرنون في السلاسل قرنت أيديهم إلى أعناقهم ويقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة في أرجلهم".
تنبيه :﴿مكاناً﴾ منصوب على الظرف، ومنها في محل نصب على الحال من مكاناً ؛ لأنه في الأصل صفة له، ومقرنين حال من مفعول ﴿ألقوا﴾، وقرأ ابن كثير ضيقاً بسكون الياء والباقون بكسر الياء مشددة ﴿دعوا هنالك﴾ أي : في ذلك المكان البغيض البعيد عن الرفق ﴿ثبوراً﴾ قال ابن عباس : ويلاً، وقال الضحاك : هلاكاً، فيقولون : واثبوراه هذا حينك وزمانك ؛ لأنه لا منادم لهم غيره، وليس يحضر أحدً منهم سواه، قال البغوي : وفي الحديث "إن أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه، وذريته من خلفه وهو يقول : يا ثبوراه وهم ينادون : يا ثبورهم حتى يقفوا على النار" فيقال لهم :
﴿لا تدعوا اليوم﴾ أي : أيها الكفار ﴿ثبوراً واحداً﴾ ؛ لأنكم لا تموتون إذا حلت بكم أسباب العذاب والهلاك ﴿وادعوا ثبوراً كثيراً﴾ أي : هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة، أو ادعوا أدعية كثيرة، وقال الكلبي : نزل هذا كله في أبي جهل والكفار الذين ذكروا تلك الشبه.
ولما وصف تعالى : العقاب المعدّ للمكذبين بالساعة أتبعه بما يؤكد الحسرة والندامة بقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦
﴿قل﴾ أي : لهؤلاء البعداء البغضاء ﴿أذلك﴾ أي : المذكور من الوعيد وصفة النار ﴿خير أم جنة الخلد﴾ أي : الإقامة الدائمة ﴿التي وعد المتقون﴾ أي : وعدها الله تعالى لهم، فالراجع إلى الموصوف وهو هاء وعدها محذوف.
فإن قيل : كيف يقال : العذاب خير أم جنة الخلد، وهل يجوز أن يقول القائل : السكر أحلى أم الصبر ؟
أجيب : بأنه يحسن في معرض التقريع كما إذا أعطى السيد عبده مالاً فتمرد وأبى واستكبر، فضربه ويقول له : هذا خير أم ذلك ؟
قال أبو مسلم : جنة الخلد هي التي لا ينقطع نعيمها، والخلد والخلود سواء كالشكر والشكور، قال تعالى :﴿لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً﴾ (الإنسان، ٩)
فإن قيل : الجنة اسم لدار الخلد، فأي فائدة في قوله تعالى :﴿جنة الخلد﴾ ؟
أجيب : بأنّ الإضافة قد تكون للبيتين، وقد تكون لبيان صفة الكمال كقوله تعالى :﴿هو الله الخالق البارئ﴾ (الحشر، ٢٤)
وهذا من هذا البيان أو للتمييز عن جنات الدنيا، ثم حقق تعالى أمرها تأكيداً للبشارة بقوله :﴿كانت لهم جزاء﴾ أي : ثواباً على أعمالهم بفضل الله تعالى وكرمه ﴿ومصيراً﴾ أي : مرجعاً.
فإن قيل : إن الجنة ستصير للمتقين جزاءً ومصيراً لكنها بعدما صارت كذلك فلم قال تعالى :﴿كانت﴾ ؟
أجيب : من وجهين : الأول : أن ما وعده الله تعالى فهو في تحققه كالواقع، الثاني : أنه كان مكتوباً في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم الله تعالى بأزمنة متطاولة أن الجنة جزاؤهم ومصيرهم، فإن قيل : لم جمع تعالى بين الجزاء والمصير ؟
أجيب : بأن ذلك كقوله تعالى :﴿نعم الثواب وحسنت مرتفقاً﴾ (الكهف، ٣١)، فمدح الثواب ومكانه، كما قال تعالى :﴿بئس الشراب وساءت مرتفقاً﴾ (الكهف، ٢٩)