ينهاه عن التكبر بعد التواضع ﴿لمن اتبعك من المؤمنين﴾ أي : سواء كانوا من الأقربين أم من الأبعدين، فإن قيل : المتبعون للرسول هم المؤمنون ؟
أجيب : بوجهين : أحدهما : أن تسميتهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين لمشارفتهم ذلك، الثاني : أن يريد بالمؤمنين المصدّقين بألسنتهم وهم صنفان صنف : صدّق واتبع رسول الله ﷺ فيما جاء به، وصنف : ما وجد منه إلا التصديق فقط، أما أن يكونوا منافقين أو فاسقين والفاسق والمنافق لا يخفض لهما الجناح فمن على هذا للتبعيض، وإن أريد عموم الإتباع فهي للتبيين واختلف في الواو في قوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٧
فإن عصوك﴾ على أوجه : أحدها : أنها ضمير الكفار، أي : فإن عصاك الكفار في أمرك لهم بالتوحيد، الثاني : أنها ضمير العشيرة، وهذا أقرب كما جرى عليه السلف والجلال المحلي، الثالث : أنها ضمير المؤمنين أي : فإن عصاك المؤمنون في فروع الإسلام وبعض الأحكام بعد تصديقك والإيمان برسالتك، وهذا كما قال ابن عادل : في غاية البعد ﴿فقل﴾ أي : تاركاً لما كنت تعاملهم من اللين ﴿إني بريء﴾ أي : منفصل غاية الانفصال ﴿مما تعملون﴾ أي : من العصيان الذي أنذر منه القرآن.
﴿وتوكل﴾ أي : فوّض في عصمتك ونجاتك وجميع أمورك ﴿على العزيز﴾ أي : القادر على الدفع عنك والانتقام منهم ﴿الرحيم﴾ أي : الذي نصرك عليهم برحمته، وقرأ نافع وابن عامر فتوكل بالفاء على الإبدال من جواب الشرط، والباقون بالواو، ثم أتبع الأمر بالتوكل الوصف المقتضى لجميع أوصاف الكمال بقوله تعالى :
﴿الذي يراك﴾ أي : بصراً وعلماً ﴿حين تقوم﴾ من نومك إلى التهجد، وقال مجاهد : أي : يراك أينما كنت، وقال أكثر المفسرين كما قال البغويّ حين تقوم إلى الصلاة أي : من نوم أو غيره.
﴿و﴾ يرى ﴿تقلبك﴾ في الصلاة قائماً وراكعاً وساجداً ﴿في الساجدين﴾ قال عكرمة عن ابن عباس أي : في المصلين، وقال مقاتل : مع المصلين في الجماعة يقول يراك حين تقوم وحدك للصلاة ويراك إذا صليت مع المصلين جماعة، وقال مجاهد : يرى تقلب بصرك في المصلين فإنه كان يبصر من خلفه كما يبصر أمامه.
وروى أبو هريرة أنّ رسول الله ﷺ قال :"هل تدرون قبلتي ههنا فو الله ما يخفى عليّ
٨٠
خشوعكم ولا ركوعكم إني لأراكم من وراء ظهري"، وقال عطاء عن ابن عباس : أراد وتقلبك في أصلاب الأنبياء من نبيّ إلى نبيّ حتى أخرجك في هذه الأمة، وقيل : تردّدك في تصفح الأحوال المتهجدين من أصحابك لتطلع عليهم من حيث لا يشعرون، وتستبطن سرائرهم وكيف يعبدون الله وكيف يعملون لآخرتهم، كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون لحرصه عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل الطاعات وتكثير الحسنات فوجدها كبيوت الزنابير.
﴿إنه هو﴾ أي : وحده ﴿السميع﴾ أي : لجميع أقوالكم ﴿العليم﴾ أي : بجميع ما تسرونه وتعلنونه من أعمالكم وشمول العلم يستلزم تمام القدرة فصار كأنه قال : إنه السميع البصير العليم القدير تثبيتاً للتوكل عليه، ولما بين سبحانه وتعالى أنّ القرأن لا يصح أن يكون مما تنزلت به الشياطين، أكد ذلك بأن بين أنّ محمداً ﷺ لا يصح أن ينزلوا عليه من وجهين ذكرهما بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٧٧
هل أنبئكم﴾ أي : أخبركم خبراً جلياً نافعاً في الدين عظيم الجدوى في الفرقان بين أولياء الرحمن وإخوان الشيطان ﴿على من تنزل﴾ وتتردّد ﴿الشياطين﴾ حين تسترق السمع ولما كان كأنه قيل : نعم أشار إلى أحد الوجهين بقوله تعالى :
﴿تنزل﴾ على سبيل التدريج والتردّد ﴿على كل أفاك﴾ أي : كذاب ﴿أثيم﴾ أي : فاجر مثل مسيلمة الكذاب وغيره من الكهنة أشار إلى ثاني الوجهين بقوله تعالى :
﴿يلقون السمع﴾ أي : الآفكون يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون وحيهم إليهم أو يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس فيضمون إليها على حسب تخيلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها، كما جاء في الحديث الكلمة يخطفها الجنيّ فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة، ولا كذلك محمد ﷺ فإنه أخبر عن مغيبات كثيرة لا تحصى وقد طابق كلها، ويجوز أن يعود الضمير على الشياطين، ومعنى إلقائهم السمع إنصاتهم إلى الملأ الأعلى قبل أن يرجموا فيخطفون منهم بعض المغيبات ويوحونه إلى أوليائهم أو يلقون الشيء المسموع إلى الكهنة ﴿وأكثرهم﴾ أي : الفريقين ﴿كاذبون﴾ أما الشياطين فإنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا، وأمّا الآفكون : فإنهم يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم.