ولهذا خص به المؤمنين، وقيل المراد بالهدى الدلالة، وإنما خصه بالمؤمنين لأنه ذكر مع الهدى البشرى، والبشرى إنما تكون للمؤمنين، أو لأنهم تمسكوا به كقوله تعالى :﴿إنما أنت منذر من يخشاها﴾ (النازعات : ٤٥)
أو لأنه يزيد في هداهم كقوله تعالى :﴿ويزيد الله الذين اهتدوا هدى﴾ (مريم : ٧٦)، ولما كان وصف الإيمان خفياً وصفهم بما يصدّقه من الأمور الظاهرة بقوله تعالى :
﴿الذين يقيمون الصلاة﴾ أي : بجميع حدودها الظاهرة والباطنة من المواقيت والطهارات والشروط والأركان والخشوع والمراقبة والإحسان إصلاحاً لما بينهم وبين الخالق ﴿ويؤتون الزكاة﴾ أي : إحساناً فيما بينهم وبين الخلائق ﴿وهم بالآخرة هم يوقنون﴾ أي : يوجدون الإيقان حق الإيجاد بالاستدلال ويجدّدونه في كل حين بما يوجد منهم من الإقدام على الطاعة والإحجام عن المعصية، وأعيد هم لما فصل بينه وبين الخبر، ولما أفهم التخصيص أن ثم من يكذب بها ذكره بقوله تعالى :
﴿إن الذين لا يؤمنون﴾ أي : لا يوجدون الإيمان ولا يجددونه ﴿بالآخرة زينا﴾ أي : بعظمتنا التي لا يمكن دفاعها ﴿لهم أعمالهم﴾ أي : القبيحة بتركيب الشهوة حتى أعرضوا عن الخوف من عاقبتها مع ظهور قباحتها، والإسناد إليه حقيقيّ عند أهل السنة لأنه الموجد الحقيقيّ، وإلى الشيطان مجاز سببيّ، وعند المعتزلة بالعكس، قال الزمخشريّ في تفسيره : إنّ إسناده إلى الشيطان حقيقة وإسناده إلى الله عز وجل مجاز ﴿فهم﴾ أي : فتسبب عن ذلك أنهم ﴿يعمهون﴾ أي : يتحيرون ويتردّدون في أودية الضلال ويتمادون في ذلك، فهم كل لحظة في خبط جديد بعمل غير سديد.
﴿أولئك﴾ أي : البعداء البغضاء ﴿الذين لهم﴾ أي : خاصة ﴿سوء العذاب﴾ أي : أشدّه في الدنيا بالخوف والقتل ﴿وهم في الآخرة هم الأخسرون﴾ أي : أشدّ الناس خسارة لأنهم خسروا ما لا خسارة مثله لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم، ولما وصف تعالى القرآن بما اقتضى بيان أهل الفوز والخسران، ذكر حال المنزل عليه وهو النبيّ ﷺ مخاطباً له بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٨٥
وإنك﴾ أي : وأنت يا أشرف الخلق وأعلمهم وأعظمهم
٨٦
وأحكمهم ﴿لتلقى القرآن﴾ أي : لتؤتاه وتلقنه أي : يلقى عليك بشدّة ﴿من لدن﴾ أي : من عند ﴿حكيم﴾ أي : بالغ الحكمة فلا شيء من أفعاله إلا وهو في غاية الإتقان ﴿عليم﴾ أي : عظيم العلم واسعه تامّه شامله، والجمع بينهما مع أنّ العلم داخل في الحكمة لعموم العلم ودلالة الحكمة على إتقان الفعل، والإشعار بأنّ علوم القرآن منها : ما هو كالعقائد والشرائع، ومنها : ما ليس كذلك كالقصص والأخبار عن المغيبات، ثم شرع في بيان تلك العلوم بقوله تعالى :
﴿إذ قال موسى﴾ أي : اذكر قصته حين قال ﴿لأهله﴾ أي : زوجته بنت شعيب عليه السلام عند مسيره من مدين إلى مصر وهي القصة الأولى من قصص هذه السورة، قال الزمخشريّ : روي أنه لم يكن مع موسى عليه السلام غير امرأته، وقد كنى الله تعالى عنها بالأهل فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع وهو قوله : امكثوا، وكانا يسيران ليلاً وقد اشتبه الطريق عليهما والوقت وقت برد، وفي مثل هذا الحال يقوى الناس بمشاهدة نار من بعد، لما يرجى فيها من زوال الحيرة وأمن الطريق ومن الانتفاع بالنار للإصطلاء، فلذلك بشرها فقال :﴿إني آنست﴾ أي : أبصرت إبصار حصل لي به الأنس وأزال عني الوحشة ﴿ناراً سآتيكم منها بخبر﴾ أي : عن حال الطريق وكان قد أضلها، وعبر بلفظ الجمع كما في قوله :﴿امكثوا﴾ فإن قيل : كيف جاء بسين التسويف ؟
أجيب : بأنّ ذلك عدة لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ الإتيان أو كانت المسافة بعيدة، فإن قيل : قال هنا ﴿سآتيكم منها بخبر﴾ وفي السورة الآتية :﴿لعلي آتيكم منها بخبر﴾ (القصص : ٢٩)
وهما كالمتدافعين لأنّ أحدهما ترج والآخر تيقن ؟
أجيب : بأنّ الراجي قد يقول إذا قوي رجاؤه سأفعل كذا وسيكون كذا مع تجويزه الحقيقة.
﴿أو آتيكم بشهاب قبس﴾ أي : شعلة نار في رأس فتيلة أو عود، قال البغويّ : وليس في الطرف الآخر نار، وقال بعضهم الشهاب شيء ذو نور مثل العمود والعرب تسمى كل شيء أبيض ذي نور شهاباً، والقبس : القطعة من النار، وقرأ الكوفيون بشهابٍ بالتنوين على أنّ القبس بدل منه أو وصف له لأنه بمعنى المقبوس، والباقون بإضافة الشهاب إليه لأنه يكون قبساً وغير قبس فهو من إضافة النوع إلى جنسه، نحو ثوب خز إذ الشهاب شعلة من النار والقبس قطعة منها يكون في عود أو غيره كما مرّ.