فإن قيل : لم جاء بأو دون الواو ؟
أجيب : بأنه بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعاً لم يعدم واحدة منهما، إمّا هداية الطريق وإمّا اقتباس النار ثقة بعادة الله أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده، وما أدراه حين قال ذلك أنه ظافر على النار بحاجتيه الكليتين جميعاً وهما العزان عز الدنيا وعز الآخرة، ثم إنه عليه السلام علل إتيانه بذلك إفهاماً لأنها ليلة باردة بقوله :﴿لعلكم تصطلون﴾ أي : لتكونوا في حال من يرجى أن يستدفئ بذلك من البرد، والطاء بدل من تاء الافتعال، من صلى بالنار بكسر اللام وفتحها.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٨٥
فلما جاءها﴾ أي : تلك التي ظنها ناراً ﴿نودي﴾ من قبل الله تعالى ﴿أن بورك﴾ أن هي المفسرة لأنّ النداء فيه معنى القول، والمعنى قيل له : بورك، أو المصدرية أي : بأن بورك، وقوله تعالى :﴿من في النار﴾ أي : موسى ﴿ومن حولها﴾ أي : الملائكة هو نائب الفاعل لبورك، والأصل بارك الله من في النار ومن حولها، وهذا تحية من الله عز وجلّ لموسى بالبركة.
ومذهب أكثر المفسرين أنّ المراد بالنار النور ذكر بلفظ النار لأنّ موسى حسبه ناراً، أو من
٨٧
في النار هم الملائكة، وذلك أنّ النور الذي رآه موسى عليه السلام كان فيه الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتقديس ومن حولها هو موسى لأنه كان بالقرب منها ولم يكن فيها، وقال سعيد بن جبير : كانت النار بعينها والنار إحدى حجب الله تعالى، كما جاء في الحديث :"حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه" الحديث تنبيه : بارك يتعدّى بنفسه وبحرف الجرّ يقال باركك الله وبارك عليك وبارك فيك وبارك لك، وقال الشاعر :
*فبوركت مولوداً وبوركت ناشئاً ** وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب*
قال الزمخشريّ : والظاهر أنه عامّ في كل من في تلك الأرض وفي ذلك الوادي وحواليهما من أرض الشأم، ولقد جعل الله تعالى أرض الشأم الموسومة بالبركات لكثرتها مبعث الأنبياء، وكفاتهم أحياء وأمواتاً، ومهبط الوحي عليهم، وخصوصاً تلك البقعة التي كلم الله فيها موسى عليه السلام وقوله تعالى ﴿وسبحان الله رب العالمين﴾ من تمام ما نودي به لئلا يتوهم من سماع كلامه تشبيهاً، وللعجب من عظمة الله في ذلك الأمر فإنه أتاه النداء، كما ورد من جميع الجهات فسمعه بجميع الحواس، أو تعجب من موسى لما دعاه من عظمته ولما تشوفت النفس إلى تحقق الأمر تصريحاً، قال تعالى تمهيداً لما أراد سبحانه إظهاره على يد موسى عليه السلام من المعجزات الباهرات.
﴿يا موسى إنه﴾ أي : الشأن العظيم الجليل الذي لا يبلغ وصفه، وجملة ﴿أنا الله﴾ أي : البالغ في العظمة ما تقصر عنه الأوهام، مفسرة له، أو المتكلم، وأنا خبر، والله بيان له، ثم وصف تعالى نفسه بوصفين يدلان على ما يفعله مع موسى عليه السلام : أحدهما :﴿العزيز﴾ أي : الذي يصل إلى سائر ما يريد ولا يرده عن مراده راد، والثاني :﴿الحكيم﴾ أي : الذي يفعل كل ما يفعله بحكمة وتدبير.
فإن قيل : هذا النداء يجوز أن يكون من عند غير الله تعالى، فكيف علم موسى أنه من الله تعالى ؟
أجيب : بأنه سمع الكلام المنزه عن شائبة كلام المخلوقين لأنّ النداء أتاه من جميع الجهات وسمعه بجميع الحواس كما مر، فعلم بالضرورة أنه صفة الله سبحانه وتعالى، ثم أرى الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام آية تدلّ على قدرته ليعلم علم شهود وهي قوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٨٥
وألق عصاك﴾ فألقاها كما مرّ فصارت في الحال، كما آذنت به الفاء حية عظيمة جدّاً، ومع كونها في غاية العظم في نهاية الخفة والسرعة في اضطرابها عند محاولتها ما تريد ﴿فلما رآها تهتز﴾ أي : تضطرب في تحرّكها مع كونها في غاية الكبر ﴿كأنها جان﴾ أي : حية صغيرة في خفتها وسرعتها فلا ينافي ذلك كبر جثتها ﴿ولى﴾ أي : موسى عليه السلام ثم إنّ التولية مشتركة بين معان، فلذا بين المراد منها بقوله تعالى :﴿مدبراً﴾ أي : التفت هارباً منها مسرعاً جدّاً لقوله تعالى :﴿ولم يعقب﴾ أي : لم يرجع على عقبه ولم يلتفت إلى ما وراءه بعد توليه.
تنبيه : قال الزمخشري : وألق عصاك معطوف على بورك لأنّ المعنى نودي أن بورك من في النار وأن ألق
٨٨
عصاك كلاهما تفسير لنودي، والمعنى قيل : له : بورك من في النار، وقيل له : ألق عصاك انتهى. وإنما احتاج إلى تقدير وقيل له ألق لتكون جمله خبرية مناسبة للجملة الخبرية التي عطفت عليها لأنه يرى في العطف تناسب الجمل المتعاطفة، والصحيح كما قاله أبو حيان : أنه لا يشترط ذلك، ولما تشوّفت النفس إلى ما قيل له عند هذه الحالة أجيب : بأنه قيل له ﴿يا موسى لا تخف﴾ أي : منها ولا من غيرها ثقة بي، ثم علل هذا النهي بقوله تعالى : مبشراً بالأمن والرسالة ﴿إني لا يخاف لديّ﴾ أي : عندي ﴿المرسلون﴾ أي : من حية وغيرها لأنهم معصومون من الظلم لا يخاف من الملك العدل إلا ظالم، وقوله تعالى.