﴿قال﴾ لهم ﴿يا أيها الملأ﴾ أي : الأشراف ﴿أيكم﴾ وفي الهمزتين ما تقدم ﴿يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين﴾ أي : مؤمنين، وقال ابن عباس : واختلفوا في السبب الذي لأجله أمر سليمان بإحضار عرشها فقال أكثرهم : لأنّ سليمان علم أنها إن أسلمت يحرم عليه مالها فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه بإسلامها، وقيل : ليريها قدرة الله تعالى ببعض ما خصه به من العجائب الدالة على عظيم القدرة وصدقه في دعوى النبوّة في معجزة يأتي بها في عرشها، وقال قتادة : لأنه أعجبته صفته لما وصفه الهدهد بالعظم فأحبّ أن يراه، وقال ابن زيد : يريد أن يأمر بتنكيره وتغييره فيختبر بذلك عقلها.
﴿قال عفريت من الجن﴾ وهو المارد القوي، قال وهب : اسمه كودي، وقيل : ذكوان، وقال ابن عباس العفريت الداهي، وقال الضحاك : هو الخبيث، وقال الربيع : الغليظ، وقال الفراء : القويّ الشديد، قيل : إنّ الشياطين أقوى من الجنّ وأنّ المردة أقوى من الشياطين وأنّ العفريت أقوى منهما، قال بعض المفسرين العفريت من الرجال الخبيث المتكبر، وقيل : هو صخر الجني وكان بمنزلة جبل يضع قدمه عند منتهى طرفه، وقوله تعالى ﴿أنا آتيك به﴾ قرأه في الموضعين نافع بإثبات الألف من أنا وصلاً ووقفاً، والباقون وصلاً لا وقفاً، ثم بيّن سرعة إسراعه بقوله ﴿قبل أن تقوم من مقامك﴾ أي : الذي تجلس فيه للقضاء، قال ابن عباس : كان له غداة كل يوم مجلس يقضي فيه إلى نصف النهار، ثم أوثق الأمر وأكده بقوله ﴿وإني عليه﴾ أي : على الإتيان به سالماً ﴿لقويّ﴾ أي : على حمله لا يحصل عجزي عنه ﴿أمين﴾ أي : على ما فيه من الجواهر وغيرها، قال سليمان عليه السلام أريد أسرع من ذلك.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٠٤
قال الذي عنده علم من الكتاب﴾
المنزل وهو علم الوحي والشرائع، وقيل : كتاب سليمان، وقيل : اللوح المحفوظ، والذي عنده علم من الكتاب جبريل، قال البقاعي ولعله التوراة والزبور انتهى، وفي ذلك إشارة إلى أنّ من خدم كتاب الله حق الخدمة كان الله تعالى معه، كما ورد في شرعنا "كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويديه التي يبطش بها ورجله التي
١٠٥
يمشي عليها"، أي : أنه يفعل له ما يشاء.
واختلفوا في تعيينه : فقال أكثر المفسرين : هو آصف بن برخيا كاتب سليمان، وقيل اسمه أسطوم وكان صديقاً عالماً يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى، وقيل ملك أيد الله تعالى به سليمان عليه السلام، وعن ابن لهيعة بلغني أنه الخضر عليه السلام ﴿أنا آتيك به﴾ ثم بين فضله على العفريت بقوله ﴿قبل أن يرتدّ﴾ أي : يرجع ﴿إليك طرفك﴾ أي : بصرك إذا طرفت أجفانك فأرسلته إلى منتهاه، ثم رددته فالطرف : تحريكك أجفانك إذا نظرت فوضع في موضع النظر، ولما كان الناظر موصوفاً بإرسال الطرف في نحو قوله :
*وكنت إذا أرسلت طرفك رائداً ** لقلبك يوماً أتعبتك المناظر*
وصف برد الطرف ووصف الطرف بالارتداد، روي أن آصف قال لسليمان مدّ عينيك حتى ينتهي طرفك، فمدّ سليمان عينيه فنظر نحو اليمين ودعا آصف فبعث الله تعالى الملائكة فحملوا السرير من تحت الأرض يجدّون جداً حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان، وقال الكلبي : خرّ آصف ساجداً ودعا باسم الله الأعظم فغار عرشها تحت الأرض حتى نبع تحت كرسي سليمان بقدرة الله تعالى، وقيل : كانت المسافة شهرين، وقال سعيد بن جبير : يعني من قبل أن يرجع إليك أقصى من ترى وهو أن يصل إليك من كان منك على مدّ بصرك، وقال قتادة : قبل أن يأتيك الشخص من مدّ البصر، وقال مجاهد : يعني : إدامة النظر حتى يرد البصر خاسئاً، قال الزمخشري : ويجوز أن يكون هذا مثلاً لاستقصار مدّة المجيء به، كما تقول لصاحبك افعل ذلك في لحظة وفي ردّ طرف والتفت ترني وما أشبه ذلك تريد السرعة انتهى.
واختلفوا في الدعاء الذي دعا به آصف : فقال مجاهد ومقاتل : بياذا الجلال والإكرام، وقال الكلبي : يا حيّ يا قيوم، وروي ذلك عن عائشة رضي الله عنها، وروي عن الزهريّ قال دعاء الذي عنده علم من الكتاب يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت ائتني بعرشها، وعن الحسن يا الله يا رحمن، وقال محمد بن المنكدر إنما هو سليمان قال له عالم من بني إسرائيل آتاه الله تعالى علماً وفهماً أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك قال سليمان هات قال أنت النبيّ ابن النبيّ وليس أحد أوجه عند الله منك فإن دعوت الله كان عندك فقال صدقت ففعل ذلك فجيء بالعرش في الوقت.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٠٤
قال الرازي وهذا القول أقرب واستدل لذلك بوجوه منها : أنّ سليمان كان أعرف بالكتاب من غيره لأنه هو النبي فكان صرف اللفظ إليه أولى، ومنها : أنّ إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لآصف دون سليمان لاقتضى ذلك قصور حال سليمان في أعين الخلق، ومنها : أنه قال هذا من فضل ربي فظاهره يقتضي أن يكون ذلك المعجز قد أظهره الله تعالى بدعاء سليمان.


الصفحة التالية
Icon