منهم، وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير الريح بالإفراد، والباقون بالجمع، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمر ونشراً بضم النون والشين وابن عامر بضم النون وسكون الشين، وحمزة والكسائي بفتح النون وسكون الشين وعاصم بالباء الموحدة مضمومة وسكون الشين، ولما انكشف بما مضى من الآيات ما كانوا في ظلامه من واهي الشبهات واتضحت الأدلة، ولم يبق لأحد في شيء من ذلك علة، كرّر سبحانه وتعالى الإنكار في قوله تعالى ﴿أإله مع الله﴾ أي : الذي كمل علمه ﴿تعالى الله﴾ أي : الفاعل القادر المختار ﴿عما يشركون﴾ به غيره، وأين رتبة العجز من رتبة القدرة، الخامس : منها قوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١١٣
﴿أم من يبدأ الخلق﴾ أي : كلهم في الأرحام من نطفة ما علمتم منهم وما لم تعلموا ﴿ثم يعيده﴾ أي : بعد الموت لأنّ الإعادة أهون، فإن قيل : كيف قيل : لهم ثم يعيده ؟
أجيب : بأنهم كانوا مقرين بالابتداء ودلالته على الإعادة ظاهرة قوية لأنّ الإعادة أهون عليه من الابتداء، فلما كان الكلام مقروناً بالدلالة الظاهرة صاروا كأنهم لا عذر لهم في إنكار الإعادة لقيام البراهين عليها، ولما كان الإمطار والإنبات من أدلّ ما يكون على الإعادة قال مشيراً إليهما على وجه عمّ جميع ما مضى.
﴿ومن يرزقكم من السماء﴾ أي : بالمطر والحرّ والبرد وغيرها مما له سبب في التكوين أو التلوين ﴿والأرض﴾ أي : بالنبات والمعادن والحيوان وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله تعالى : وعبر عنها بالرزق لأنّ به تمام النعمة ﴿أإله مع الله﴾ أي : الذي له صفات الجلال والإكرام، ولما كانت هذه كلها براهين ساطعة ودلائل قاطعة أمر الله تعالى رسوله ﷺ إعراضاً عنهم بقوله تعالى :﴿قل﴾ أي : لهؤلاء المدّعين للعقول ﴿هاتوا برهانكم﴾ أي : حجتكم على نفي شيء من ذلك عن الله تعالى أو على إثبات شيء منه لغيره ﴿إن كنتم صادقين﴾ أي : في أنكم على حق في أنّ مع الله تعالى غيره، وأضاف تعالى البرهان إليهم تهكماً بهم وتنبيهاً على أنهم أبعدوا في الضلال وأغرقوا في المحال، ثم إنهم سألوه عن وقت قيام الساعة فنزل.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١١٦
قل﴾ أي : لهم ﴿لا يعلم من في السموات والأرض﴾ من الملائكة والناس ﴿الغيب﴾ أي : ما غاب عنهم وقوله تعالى :﴿إلا الله﴾ استثناء
١١٦
منقطع أي : لكن الله يعلمه، ولما كان الله تعالى منزهاً عن أن يحويه مكان جعل الاستثناء هنا منقطعاً، فإن قيل : من حق المنقطع النصب ؟
أجيب : بأنه رفع بدلاً على لغة بني تميم يقولون ما في الدار أحد إلا حمار يريدون ما فيها إلا حمار كأن أحداً لم يذكر، ومنه قولهم : ما أتاني زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا أخوانه، فإن قيل : ما الداعي إلى المذهب التميمي على الحجازي ؟
أجيب : بأنه دعت إليه حاجة سرية حيث أخرج المستثنى مخرج قوله إلا اليعافير بعد قوله ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس ليؤل المعنى إلى قولك إن كان الله ممن في السموات والأرض فهم يعلمون الغيب بمعنى أنّ علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم، كما أنّ معنى ما في البيت أن كانت اليعافير أنيسا ففيها أنيس، إنباء عن خلوها عن الأنيس.
ويصح أن يكون متصلاً والظرفية في حقه تعالى مجاز بالنسبة إلى علمه وإن كان فيه جمع بين الحقيقة والمجاز كما قال به إمامنا الشافعيّ رضي الله تعالى عنه، وإن منعه بعضهم، ومن ذلك قول المتكلمين : الله تعالى في كل مكان على معنى أنّ علمه في الأماكن كلها فكأن ذاته فيها، وعلى هذا فيرتفع على البدل والصفة، والرفع أفصح من النصب لأنه منفي، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول.
﴿قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله﴾ وعن بعضهم أخفى غيبه عن الخلق ولم يطلع عليه أحداً لئلا يأمن أحد من عبيده مكره، وقوله تعالى :﴿وما يشعرون﴾ صفة لأهل السموات والأرض نفي أن يكون لهم علم بالغيب، وإن اجتمعوا وتعاونوا ﴿أيان﴾ أي : أيّ وقت ﴿يبعثون﴾ أي : ينشرون، وقوله تعالى :
﴿بل﴾ بمعنى هل ﴿أدارك﴾ أي : بلغ وتناهى ﴿علمهم في الآخرة﴾ أي : بها حتى سألوا عن وقت مجيئها، ليس الأمر كذلك ﴿بل هم في شك﴾ أي : ريب ﴿منها﴾ كمن تحير في الأمر لا يجد عليه دليلاً ﴿بل هم منها عمون﴾ لا يدركون دلائلها لاختلال بصيرتهم، وهذا وإن اختص بالمشركين بمن في السموات والأرض، نسب إلى جميعهم كما يسند فعل البعض إلى الكل.
فإن قيل : هذه الاضرابات الثلاثة ما معناها ؟
أجيب : بأنها لتنزيل أحوالهم وصفهم أوّلاً بأنّهم
١١٧