لا يشعرون بوقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أنّ القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه والإزالة مستطاعة، ثم بما هو أسوأ حالاً وهو العمى وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه وفرجه لا يخطر بباله حقاً ولا باطلاً ولا يفكر في عاقبة وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه فلذلك عدّاه بمن دون عن لأنّ الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون، ووصفهم باستحكام علمهم في أمر الآخرة تهكماً.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١١٦
وقرأ أبو عمرو وابن كثير بقطع الهمزة مفتوحة وسكون اللام قبلها وسكون الدال بعدها، والباقون بكسر اللام وإسقاط الهمزة بعدها وتشديد الدال وبعدها ألف بمعنى تتابع حتى استحكم أو تتابع حتى انقطع من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك وقوله تعالى :
﴿وقال الذين كفروا أئذا كناتراباً وآباؤنا أئنا﴾ أي : نحن وآباؤنا الذين طال العهد بهم ﴿لمخرجون﴾ كالنبات، والعامل في إذا محذوف يدل عليه لمخرجون تقديره نبعث ونخرج، لأنّ بين يدي عمل اسم المفعول فيه عقبات وهي همزة الاستفهام وإنا ولام الابتداء وواحدة منها كافية فكيف إذا اجتمعت، والمراد الإخراج من الأرض أو من حال الفناء إلى حال الحياة وتكرير حرف الاستفهام بإدخاله على إذا وأنا جميعاً إنكار على إنكار وجحود عقب جحود ودليل على كفر مؤكد مبالغ فيه، والضمير في إنا لهم ولآبائهم لأنّ كونهم تراباً قد تناولهم وآباؤهم.
تنبيه : آباؤنا عطف على اسم كان وقام الفصل بالخبر مقام الفصل بالتوكيد.
وقرأ نافع بالخبر في إذا وبالاستفهام في أئنا، وابن عامر والكسائي بالاستفهام في الأوّل والخبر في الثاني وزادا فيه نوناً ثانية، وباقي القراء بالاستفهام في الأوّل والثاني وهم على مذاهبهم من التسهيل والتحقيق والمدّ والقصر، فمذهب قالون وأبي عمرو التسهيل في الهمزة الثانية، وإدخال ألف بينها وبين همزة الاستفهام، ومذهب ورش وابن كثير التسهيل وعدم الإدخال ومذهب هشام الإدخال وعدمه مع التحقيق، ومذهب الباقين التحقيق وعدم الإدخال، ثم أقام الكفار الدليل في زعمهم على ذلك فقالوا تعليلاً لاستبعادهم.
﴿لقد وعدنا هذا﴾ أي : الإخراج من القبور كما كنا أوّل مرّة ﴿نحن وآباؤنا من قبل﴾ أي : قبل محمد فقد مرّت الدهور على هذا الوعد ولم يقع منه شيء فذلك دليل على أنه لا حقيقة له، فكأنه قيل : فما فائدة المراد به فقالوا ﴿إن﴾ أي : ما ﴿هذا إلا أساطير الأوّلين﴾ أي : أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها ولا حقيقة لها.
تنبيه : أساطير الأوّلين : جمع أسطورة بالضم أي : ما سطر من الكذب، فإن قيل : لم قدم في هذه الآية هذا، على نحن وآباؤنا، وفي آية أخرى قدم نحن وآباؤنا، على هذا ؟
أجيب : بأنّ التقديم دليل على أنّ المقدّم هو الغرض المقصود بالذكر وأنّ الكلام إنما سيق لأجله، ففي إحدى الآيتين دل على أنّ إيجاد البعث هو الذي تعمد بالكلام وفي الأخرى على أنّ إيجاد المبعوث بذلك الصدد، ثم أمر الله تعالى نبيه ﷺ أن يرشدهم بما في صورة التهديد بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١١٦
قل سيروا في الأرض﴾ أي : أيها العمي الجاهلون ﴿فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين﴾ بإنكارهم وهي هلاكهم بالعذاب فإنكم إن نظرتم وتأمّلتم أخبارهم حق التأمّل أسرع بكم ذلك إلى التصديق فنجوتم وإلا هلكتم كما هلكوا، وأراد بالمجرمين الكافرين، فإن قيل : فلم لم يقل عاقبة الكافرين ؟
أجيب : بأنّ
١١٨
هذا يحصل به التخويف لكل العصاة، ثم إنّ الله تعالى صبر نبيه ﷺ على ما يناله من جلافتهم وعماهم عن السبيل الذي هدى إليه الدليل بقوله تعالى :
﴿ولا تحزن عليهم﴾ أي : في عدم إيمانهم فإنما عليك البلاغ ﴿ولا تكن في ضيق مما يمكرون﴾ أي : لا تهتم بمكرهم عليك فأنا ناصرك عليهم وجاعل تدميرهم في تدبيرهم كطغاة قوم صالح، تنبيه : الضيق الحرج يقال ضاق الشيء ضيقاً وضيقاً بالفتح والكسر، ولهذا قرأ ابن كثير بكسر الضاد، والباقون بالفتح، ولما أشار تعالى إلى أنهم لم يبقوا في المبالغة في التكذيب بالساعة وجهاً أشار تعالى إلى أنهم في التكذيب بالوعيد بالساعة وغيرها من عذاب الله أشدّ مبالغة بقوله تعالى :
﴿ويقولون﴾ بالمضارع المؤذن بالتجدّد كل حين والاستمرار ﴿متى هذا الوعد﴾ أي : العذاب والبعث والمجازاة الموعود بها وسموه وعداً إظهاراً لمجيئه تهكماً به ﴿إن كنتم﴾ أي : أنت ومن تبعك ﴿صادقين﴾ فيه، ثم أمر الله تعالى نبيه ﷺ أن يجيبهم بقوله تعالى :
﴿قل﴾ لهم ﴿عسى أن يكون ردف لكم﴾ أي : تبعكم وردفكم ولحقكم، فاللام مزيدة على هذا للتأكيد كالباء في قوله ﴿ولا تلقوا بأيديكم﴾ (البقرة، ١٩٥)
ويصح أن يكون تضمن ردف معنى فعل فتعدى باللام نحو دنا وقرب وأردف وبهذا فسره ابن عباس، وقد عدّي بمن في قول القائل :
*فلما ردفنا من عمير وصحبه ** تولوا سراعاً والمنية تعنق*