﴿إن ربك﴾ أي : المحسن إليك بما لم يصل إليه أحد ﴿يقضي بينهم﴾ أي : بين جميع المختلفين ﴿بحكمه﴾ أي : الذي هو أعدل حكم وأتقنه وأنفذه، فإن قيل : القضاء والحكم شيء واحد فقوله تعالى :﴿يقضي بينهم بحكمه﴾ أي : بما يحكم به كقوله يقضي بقضائه ويحكم بحكمه ؟
أجيب : بأنّ معنى قوله تعالى :﴿بحكمه﴾ أي : بما يحكم به وهو عدله لأنه لا يقضي إلا بالعدل فسمى المحكوم به حكماً أو أراد بحكمته ﴿وهو﴾ أي : والحال أنه هو ﴿العزيز﴾ أي : فلا يردّ له أمر ﴿العليم﴾ فلا يخفى عليه سرّ ولا جهر، فلما ثبت له تعالى العلم والحكمة والعظمة والقدرة تسبب عن ذلك قوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٢٠
فتوكل على الله﴾ أي : ثق به لتدع الأمور كلها إليه وتستريح من تحمل المشاق وثوقاً بنصره، ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿إنك على الحق المبين﴾ أي : البين في نفسه الموضح لغيره فصاحب الحق حقيق بالوثوق بحفظ الله تعالى ونصره وقوله تعالى :
﴿إنك لا تسمع الموتى﴾ تعليل آخر للأمر بالتوكل من حيث إنه يقطع طمعه من معاضدتهم، وإنما شبهوا بالموتى لعدم انتفاعهم باستماع ما يتلى عليهم كما شبهوا بالصم في قوله
١٢٠
تعالى :﴿ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين﴾ أي : معرضين، فإن قيل : ما معنى قوله تعالى :﴿ولوا مدبرين﴾ أجيب : بأنه تأكيد الحال الأصم لأنه إذا تباعد عن محل الداعي بأن تولى عنه مدبراً كان أبعد عن إدراك صوته، وقرأ ابن كثير ولا يسمع بالياء التحتية المفتوحة وفتح الميم الصم برفع الميم، والباقون بالتاء الفوقية مضمومة وكسر الميم الصم بالنصب، وسهل نافع وابن كثير وأبو عمرو الهمزة الثانية من الدعاء إذاً كالياء مع تحقيق الأولى، والباقون بتحقيقهما وهم على مراتبهم في المدّ، ثم قطع طمعه في إيمانهم بقوله تعالى :
﴿وما أنت بهادي العمي﴾ أي : في أبصارهم وبصائرهم مزيلاً لهم وناقلاً ومبعداً ﴿عن ضلالتهم﴾ أي : عن الطريق بحيث تحفظهم عن أن يزلوا عنها أصلاً فإنّ هذا لا يقدر عليه إلا الحيّ القيوم، وقرأ حمزة تهدي بتاء فوقيه وسكون الهاء والعمي بنصب الياء، والباقون بالباء الموحدة مكسورة وفتح الهاء بعدها ألف والعمي بكسر الياء، ولما كان هذا ربما أوقف عن دعائهم رجاه في انقيادهم وارعوائهم بقوله تعالى :﴿إن﴾ أي : ما ﴿تسمع﴾ أي : سماع انتفاع على وجه الكمال في كل حال ﴿إلا من يؤمن﴾ أي : من علمنا أنه يصدّق ﴿بآياتنا﴾ بأن جعلنا فيه قابلية السمع، ثم تسبب عنه قوله دليلاً على إيمانه ﴿فهم مسلمون﴾ أي : مخلصون في غاية الطواعية لك كما في قوله تعالى :﴿بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن﴾ (البقرة : ١١٢)
أي : جعله سالماً خالصاً، ثم ذكر تعالى ما يوعدون مما تقدّم استعجالهم له استهزاء بقوله تعالى :
﴿وإذا وقع القول عليهم﴾ أي : مضمون القول وهو ما وعدوا به من قيام الساعة والعذاب، ووقوعه حصوله، أو أطلق المصدر على المفعول أي : المقول ﴿أخرجنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿لهم﴾ حين مشارفة العذاب والساعة وظهور أشراطها حين لا تنفع التوبة ﴿دابة من الأرض﴾ وهي الجساسة جاء في الحديث :"إن طولها ستون ذراعاً لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب" وروي :"أنّ لها أربع قوائم وزغباً وهو شعر أصفر على ريش الفرخ وريشاً وجناحين".
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٢٠
وعن ابن جريج في وصفها فقال : رأسها رأس الثور، وعينها عين الخنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيل وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هرّ، وذنبها ذنب كبش، وخفها خف بعير وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعاً بذراع آدم عليه السلام، وروي أنها لا تخرج إلا رأسها ورأسها يبلغ عنان السماء أي : يبلغ السحاب، وعن أبي هريرة فيها من كل لون وما بين قرنيها فرسخ للرّاكب، وعن الحسن لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام.
وعن علي رضي الله تعالى عنه : أنها تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها، وروي أنه ﷺ "سئل من أين تخرج الدابة فقال : من أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن" حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد فقوم يهربون وقوم : يقفون نظاراً، وقيل تخرج من الصفا.
١٢١
ولما كان التعبير بالدابة يفهم أنها كالحيوانات العجم لا كلام لها قال ﴿تكلمهم﴾ أي : بالعربية كما قاله مقاتل بكلام يفهمونه بلسان طلق ذلق فتقول ﴿أنّ الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون﴾ أي : أنّ الناس كانوا لا يوقنون بخروجي لأنّ خروجها من الآيات، وتقول ألا لعنة الله على الظالمين، وعن السدي : تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام.