*فأما عيون العاشقين فأسخنت ** وأما عيون الشامتين فقرت*
وقال أبو العباس : ليس كما قال الأصمعيّ بل كل دمع حارّ فمعنى أقرّ الله تعالى عينك صادفت سروراً فنامت وذهب سهرها وصادفت ما يرضيك أي : بلغك الله أقصى أملك حتى تقرّ عينك من النظر إلى غيره استغناء ورضا بما في يديك ﴿ولا﴾ أي : وكي لا ﴿تحزن﴾ أي : بفراقه ﴿ولتعلم﴾ أي : علماً هو عين اليقين كما كانت عالمة به علم اليقين وعلم شهادة كما كانت عالمة به علم غيب ﴿أن وعد الله﴾ أي : الأمر الذي وعدها به الذي له الكمال كله في حفظه وإرساله ﴿حق﴾ أي : هو في غاية الثبات في مطابقة الواقع ﴿ولكن أكثرهم﴾ أي : أكثر آل فرعون وغيرهم ﴿لا يعلمون﴾ أنّ وعد الله حق فيرتابون فيه أولا يعلمون أنّ الله وعدها ردّه إليها، قال الضحاك : لما قبل ثديها قال هامان إنك لأمه قالت لا قال فما له قبل ثديك من بين النسوة قالت أيها الملك إني امرأة طيبة الريح حلوة اللبن فما شم ريحي صبي إلا أقبل على ثديي قالوا صدقت فلم يبق أحد من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالذهب والجوهر وأجرى عليها أجرها.
قال السدي : وكانوا يدفعون إليها كل يوم ديناراً، فإن قيل : كيف حل لها أن تأخذ الأجر على إرضاع ولدها منه ؟
أجيب : بأنها ما كانت تأخذه على أنه أجر على الرضاع ولكنه مال حربي كانت تأخذه على الاستباحة فمكث عندها إلى أن فطمته واستمرّ عند فرعون يأكل من مأكوله ويشرب من مائه ويلبس من ملبوسه إلى أن كمل كما قال تعالى حكاية عنه في سورة الشعراء ﴿ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين﴾ (الشعراء : ١٨)
١٣٤
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٢٩
﴿ولما بلغ أشدّه﴾ وهو ثلاثون سنة أو وثلاث كما قال مجاهد : وغيره ﴿واستوى﴾ أي : بلغ أربعين سنة كما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقيل : اعتدل في السنّ وتم استحكامه بانتهاء شبابه وهو من العمر ما بين إحدى وعشرين سنة إلى اثنتين وأربعين ﴿آتيناه﴾ أي : ابتداء من غير اكتساب أصلاً، خرقاً للعادة أسوة إخوانه من الأنبياء ﴿حكماً﴾ أي : عملاً محكماً بالعلم ﴿وعلماً﴾ أي : فقهاً في الدين تهيئة لنبوّته وإرصاداً لرسالته، وقيل : المراد بالعلم علم التوراة والحكم السنة، قال الزمخشري : وحكمة الأنبياء سنتهم قال الله تعالى ﴿واذكرن ما يتلى في بيوتكنّ من آيات الله والحكمة﴾ (الأحزاب، ٣٤)، وقيل : معناه آتيناه سيرة الحكماء العلماء وسمتهم قبل البعث فكان لا يفعل فعلاً يستجهل فيه.
قال البقاعي : واختار الله تعالى هذا السن للإرسال ليكون من جملة الخوارق لأنّ به يكون ابتداء الانتكاس الذي قال الله تعالى فيه :﴿ومن نعمره﴾ (يس : ٦٨)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٣٥
أي : إلى إكمال سنّ الشباب ﴿ننكسه في الخلق﴾ (يس : ٦٨)
أي : نوقفه فلا يزداد بعد ذلك في قواه الظاهرة ولا الباطنة شيء أولا يوجد فيه غريزة لم تكن موجودة أصلاً عشر سنين ثم يأخذ في النقصان هذه عادة الله في جميع بني آدم إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنهم في حدّ الوقوف يؤتون من بحار العلوم ما يقصر عنه الوصف بغير اكتساب بل غريزة يغرزها الله تعالى فيهم حينئذ ويؤتون من قوّة الأبدان أيضاً بمقدار ذلك ففي انتكاس غيرهم يكون نموهم وكذا من ألحقه الله تعالى بهم من صالحي أتباعهم كما قال تعالى.
﴿وكذلك﴾ أي : مثل هذا الجزاء العظيم ﴿نجزي المحسنين﴾ أي : كلهم على إحسانهم.
١٣٥
ولما أخبر تعالى بتهيئته للنبوّة أخبر بما هو سبب لهجرته وكأنها سنة بعد إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى :
﴿ودخل﴾ أي : موسى عليه السلام ﴿المدينة﴾ قال السدي : هي مدينة منف من أرض مصر، وقال مقاتل : كانت قرية تدعى جابين على رأس فرسخين من مصر، وقيل : مدينة عين شمس، وقيل : غير ذلك ﴿على حين غفلة من أهلها﴾ وهو وقت القائلة واشتغال الناس بالقيلولة، وقال محمد بن كعب القرظي : دخلها فيما بين المغرب والعشاء، وقيل : يوم عيد لهم وهم مشتغلون فيه بلهوهم، وقيل : لما شب وعقل أخذ يتكلم بالحق وينكر عليهم فأخافوه فلا يدخل قرية إلا على تغفل واختلف في السبب الذي من أجله دخل المدينة في هذا الوقت.
قال السدي : وذلك أن موسى كان يسمى ابن فرعون فكان يركب مراكب فرعون ويلبس مثل ملابسه فركب فرعون يوماً وليس عنده موسى فلما جاء موسى قيل له إن فرعون قد ركب فركب في أثره فأدركه المقيل بأرض منف فدخلها نصف النهار وليس في طرقها أحد.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٣٥


الصفحة التالية
Icon