قال ابن جرير : والعرب تقول : طمست الريح الأعلام إذا دفنتها بما تسفي عليها، فانطلقوا هاربين مسرعين إلى الباب لا يهتدون إليه ولا يقعون عليه، بل يصادمون الجدران خوفاً مما هو أعظم من ذلك، وهم يقولون عند ذلك لوط سحر الناس، وما أدّتهم عقولهم إلى أن يؤمنوا فينجوا أنفسهم.
قال القشيري : وكذلك أجرى الله تعالى سنته في أوليائه بأن يطمس على قلوب أعدائهم حتى يلتبس عليهم كيف يؤذون أولياءه ويخلصهم من كيدهم. وقوله تعالى :﴿فذوقوا عذابي ونذر﴾ أي : إنذاري وتخويفي، خطاب لهم أي : قلنا لهم على لسان الملائكة فذوقوا، فهو خطاب مع كل مكذب أي : إن كنتم تكذبون فذوقوا. قال القرطبي : والمراد من هذا الأمر الخبر أي : فأذقتهم عذابي الذي أنذرهم به لوط عليه السلام.
فإن قيل : النذر كيف تذاق ؟
أجيب بأنّ المراد ثمرته وفائدته.
فإن قيل : إذا كان المراد بقوله تعالى :﴿عذابي﴾ هو العذاب العاجل وبقوله تعالى :﴿ونذر﴾ هو العذاب الآجل : فهما لم يكونا في زمان واحد، فكيف قال تعالى :﴿فذوقوا﴾ ؟
أجيب : بأنّ العذاب الآجل أوّله متصل بآخر العذاب العاجل فهما كالواقع في زمان واحد، وهو قوله تعالى :﴿أغرقوا فأدخلوا ناراً﴾ (نوح : ٢٥)
﴿ولقد صبحهم﴾ أي : أتاهم وقت الصباح ؛ وقرأ نافع، وابن كثير، وابن ذكوان وعاصم بإظهار الدال عند الصاد ؛ والباقون : بلا إظهار ؛ وحقق المعنى بقوله تعالى :﴿بكرة﴾ أي في أوّل نهار العذاب ؛ وانصرف بكرة لأنه نكرة ؛ ولو قصد به وقت بعينه امتنع الصرف للتأنيث والتعريف ؛ ﴿عذاب﴾ أي : فقلع بلادهم ورفعها ؛ ثم قلبها وحصبها بحجارة النار وخسفها وغمرها بالماء المنتن الذي لا يعيش به حيوان ؛ ﴿مستقر﴾ أي ثابت عليهم غير زائل ليس بخيال ولا سحر كما قالوا عند الطمس، فإنه أهلكهم فاتصل بعذاب البرزخ المتصل بعذاب القيامة المتصل بالعذاب الأكبر في الطبقة التي تناسب أعمالهم من عذاب النار.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٤٩
فقال لهم لسان الحال إن لم ينطق لسان المقال :﴿فذوقوا﴾ أي : بسبب أفعالكم الخبيثة ﴿عذابي ونذر﴾.
تنبيه : قد علم من تكرير هذا أن سبب العذاب التكذيب بالإنذار لأي رسول كان، وكان استئناف كل قصة منبهاً على أنها أهل على حدتها لأن يتعظ بها.
﴿ولقد يسرنا﴾ أي : على مالنا من العظمة ﴿القرآن﴾ أي : الجامع الفارق بين الحق والباطل ؛ ولو شئنا لأعليناه بما لنا من القدرة إلى حد تعجز القوى عن فهمه، كما أعليناه إلى رتبة وقفت القوى عن معارضته ﴿للذكر فهل من مدكر﴾ أي : فيخلص نفسه من مثل هذا الذي أوقع فيه
١٥١
هؤلاء أنفسهم ظناً منهم أن الأمر لا يصل إلى ما وصل إليه جهلاً منهم، وعدم اكتراث بالعواقب.
ولما انقضت قصة لوط عليه السلام أتبعها قصة موسى عليه السلام لأنها بعد قوم لوط ؛ بقوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٤٩
﴿ولقد جاء آل فرعون﴾ أي : فرعون ملك القبط بمصر ؛ وقومه الذين إذا رآهم أحد كان كأنه فيهم لشدّة قربهم منه، وتخلقهم بأخلاقه ﴿النذر﴾ أي الإنذار على لسان موسى وهرون عليهما السلام ؛ فلم يؤمنوا بل ﴿كذبوا﴾ أي : تكذيباً عظيماً مستهزئين ﴿بآياتنا﴾ التي أتاهم بها موسى عليه السلام ﴿كلها﴾ أي : التسع التي أوتيها وهي : العصا، واليد، والسنين، والطمس، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم.
فإن قيل كيف قال :﴿ولقد جاء﴾ ولم يقل في غيره جاء ؟
أجيب : بأنّ موسى عليه السلام لما جاء كان غائباً عن القوم، فقدم عليهم كما قال تعالى :﴿فلما جاء آل لوط المرسلون﴾ (الحجر : ٦١)
وقال تعالى :﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم﴾ لأنه جاءهم من عند الله من السموات بعد المعراج، كما جاء موسى قومه من الطور ؛ والنذر : الرسل ولقد جاءهم يوسف وبنوه إلى أن جاءهم موسى عليه السلام، وقيل : النذر : الإنذارات
تنبيه : ههنا همزتان مفتوحتان من كلمتين فقرأ أبو عمرو وقالون : بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر ؛ وسهل ورش وقنبل الهمزة الثانية ؛ ولهما أيضاً إبدالها ألفاً وورش على أصله في الهمزة المسهلة ؛ ومدّ بعد الجيم حمزة وابن ذكوان، والباقون بالفتح ؛ وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفاً مع المدّ والتوسط والقصر ؛ ﴿فأخذناهم﴾ أي : بما لنا من العظمة بنحو ما أخذنا به قوم نوح من الإغراق ﴿أخذ عزيز﴾ أي : لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء ﴿مقتدر﴾ أي : لا يعجل بالأخذ لأنه لا يخاف الفوت ولا يخشى معقباً لحكمه بالغ القدرة إلى حد لا يدرك الوصف كنهه.
ثم خوّف كفار مكة فقال تعالى :﴿أكفاركم﴾ أي : الراسخون منكم يا أهل مكة في الكفر الثابتون عليه، يا أيها المكذبون، لهذا النبيّ الكريم الساترون لشموس دينه ﴿خير﴾ في الدنيا بالقوة والكثرة، أو في الدين عند الله أو عند الناس ﴿من أولئكم﴾ أي : المذكورين من قوم نوح إلى فرعون الذين وعظناكم بهم في هذه السورة ؟
وهذا استفهام بمعنى الإنكار أي ليسوا بأقوى منهم فمعناه نفي أي ليس كفاركم خيراً من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم.