جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٦٧
فإن قيل : ما الحكمة في تقديم الجنّ على الإنس ههنا، وتقديم الإنس على الجنّ في قوله تعالى :﴿قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن﴾ (الإسراء : ٨٨)
أجيب بأنّ النفوذ من أقطار السموات والأرض بالجنّ أليق إن أمكن والإتيان بمثل القرآن بالإنس أليق إن أمكن فقدم في كل موضع ما يليق به.
فإن قيل : لم جمع في قوله تعالى :﴿سنفرغ لكم﴾ وفي قوله تعالى :﴿إن استطعتم﴾ وثنى في قوله ﴿أيه الثقلان﴾ أجيب : بأنهما فريقان في حال الجمع كقوله تعالى :﴿فإذا هم فريقان يختصمون﴾ (النمل : ٤٥)
﴿وهذان خصمان اختصموا في ربهم﴾.
﴿لا تنفذون﴾ أي : لا تقدرون على النفوذ ﴿إلا بسلطان﴾ أي : إلا بقوّة وقهر وأنى لكم ذلك ؟
وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال معناه إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا ولن تعلموا إلا بسلطان أي بينة من الله تعالى.
تنبيه : في هذه الآيات والتي في الأحقاف وفي قل أوحى دليل على أنّ الجنّ مكلفون مخاطبون مأمورون منهيون مثابون معاقبون كالإنس سواء مؤمنهم كمؤمنهم وكافرهم ككافرهم.
﴿فبأي آلاء﴾ أي : نعم ﴿ربكما﴾ المحسن إليكما المربي لكما بما تعرفون به قدرته على ما يريد ﴿تكذبان﴾ أبتلك النعم أم بغيرهما ؟
وقال البغوىّ : وفي الخبر يحاط على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون ﴿يا معشر الجنّ والإنس إن استطعتم﴾ الآية، فذلك قوله تعالى :﴿يرسل عليكما﴾ أي : أيها المعاندون ؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما : حين يخرجون من القبور لسوقهم إلى المحشر ﴿شواظ من نار﴾ قال مجاهد : هو اللهب الأخضر المنقطع من النار. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هو اللهب الخالص الذي لا دخان له. وقال الضحاك هو الدخان الذي يخرج من اللهب ليس كدخان الحطب وقال سعيد بن جبير : عن ابن عباس رضي الله عنهما : إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر وقيل : هو اللهب الأحمر. وقال عمرو : هو النار والدخان جميعاً وحكاه الأخفش عن
بعض العرب قال حسان :
*هجوتك فاختضعت لها بذل ** بقافية تأجج كالشواظ*
وقرأ ابن كثير : بكسر الشين والباقون : بضمها، وهما لغتان بمعنى واحد مثل صوار من البقر
١٧٠
وصوار وهو القطيع من البقر.
واختلف في قوله سبحانه وتعالى :﴿ونحاس﴾ فقيل : هو الصفر المعروف يذيبه الله تعالى ويعذبهم به. وقيل : هو الدخان الذي لا لهب معه قاله الخليل، وهو معروف في كلام العرب ؛ وأنشد الأعشى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٦٧
تضيء كضوء سراج السلي
** ط لم يجعل الله فيه نحاسا*
وقال ابن برحان والعرب تسمى الدخان نحاساً بضم النون وكسرها، وأجمع القراء على ضمها ا. ه وقال الضحاك : هو دردري الزيت المغلي. وقال الكسائي : التي لها ريح شديد. ﴿فلا تنتصران﴾ أي فلا تمتنعان ولا ينصر بعضكم بعضاً من ذلك بل يسوقكم إلى المحشر.
﴿فبأي آلاء﴾ أي نعم ﴿ربكما﴾ أي : المدبر لكما هذا التدبير المتقن ﴿تكذبان﴾ أبتلك النعم ـ فإن التهديد لطف والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار في عداد الآلاء ـ أم بغيرها ؟
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٦٧
﴿فإذا انشقت السماء﴾ أي : انفرجت، فكانت أبواباً لنزول الملائكة ﴿فكانت وردة﴾ أي : محمرّة مثل الوردة ﴿كالدهان﴾ أي : كالأديم الأحمر على خلاف العهد بها لشدّة حرّ نار جهنم. وقال مجاهد والضحاك وغيرهما : الدهان الدهن والمعنى صارت في صفاء الدهن ؛ والدهان على هذا جمع دهن. وقال سعيد بن جبير وقتادة : المعنى تصير في حمرة الورد وجريان الدهن، أي : تذوب مع جريان الدهن حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم، وتصير مثل الدهن لرقتها وذوبانها ؛ وقال الحسن : كصب الدهن فإنك إذا صببته ترى فيه ألواناً ؛ وجواب إذا فما أعظم الهول.
﴿فبأي آلاء﴾ أي : نعم ﴿ربكما﴾ أي : الخالق والرازق لكما ﴿تكذبان﴾ أبتلك النعم أم بغيرها مما يكون بعد ذلك ؟
﴿فيومئذ﴾ أي : فتسبب عن يوم إذ انشقت السماء أنه ﴿لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جانّ﴾ أي : سؤال تعرّف واستعلام، بل سؤال تقريع وتوبيخ وملام، وذلك أنه لا يقال له هل فعلت كذا ؟
بل
١٧١
يقال له لم فعلت كذا ؟
على أنّ ذلك اليوم طويل وهو ذو ألوان تارة يسأل فيه، وتارة لا يسأل والأمر في غاية الشدّة وكل لون من تلك الألوان يسمى يوماً فيسأل في بعض ولا يسأل في بعض وقيل : المعنى ألا يسألون إذا استقروا في النار. وقال الحسن وقتادة : لا يسألون عن ذنوبهم لأنّ الله تعالى حفظها عليهم وكتبتها الملائكة ؛ رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وعن الحسن ومجاهد : لا تسأل الملائكة عنهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم ؛ دليله قوله تعالى :﴿يعرف المجرمون بسيماهم﴾ (الرحمن : ٤١)
ورواه مجاهد عنه أيضاً : في قوله تعالى :﴿فوربك لنسألنهم أجمعين﴾ (الحجر : ٩٢)
وقوله تعالى :﴿فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان﴾ (الرحمن : ٣٩)


الصفحة التالية
Icon