قال لا يسألهم ليعرف ذلك منهم ولكنه يسألهم لم عملتموها سؤال توبيخ ؛ وقال أبو العالية : لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم ؛ وقال قتادة : يسألون قبل الختم على أفواههم ثم يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم شاهدة عليهم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٧١
تنبيه : الجانّ هنا وفيما يأتي بمعنى الجني والإنس بمعنى الإنسي.
﴿فبأي آلاء﴾ أي : نعم ﴿ربكما﴾ أي : الذي ربى كلاً منكم بما لا مطمع في إنكاره ولا خفاء فيه ﴿تكذبان﴾ أبتلك النعم أم بغيرها مما أنعم الله تعالى على عبادة المؤمنين في هذا اليوم ؟
﴿يعرف﴾ أي : لكل أحد ﴿المجرمون﴾ أي : العريقون في هذا الوصف ﴿بسيماهم﴾ أي العلامات التي صور الله تعالى ذنوبهم فيها، فجعلها ظاهرة بعد أن كانت باطنة وظاهرة الدلالة عليهم، كما يعرف الآن الليل إذا جاء لا يخفى على أحد أصلاً وكذا النهار ونحوهما لغير الأعمى ؛ قال البقاعي : وتلك السيمى والله أعلم زرقه العيون، وسواد الوجوه، والعمى والصمم والمشي على الوجوه، ونحو ذلك، وكما يعرف المحسنون بسيماهم : من بياض الوجوه، وإشراقها، وتبسمها، والغرّة والتحجيل، ونحو ذلك.
وسبب عن هذه المعرفة قوله تعالى : مشيراً بالبناء للمفعول إلى سهولة الأخذ من أيّ آخذ كان ﴿فيؤخذ بالنواصي﴾ أي : منهم وهي مقدمات الرؤوس ﴿والأقدام﴾ بعد أن يجمع بينها فيسحبون بها سحباً من كل ساحب أقامه الله تعالى لذلك لا يقدرون على الامتناع بوجه فيلقون في النار ؛ وقال الضحاك : يجمع بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره وعنه يؤخذ برجلي الرجل فيجمع بينهما وبين ناصيته حتى يندق ظهره، ثم يلقى في النار ؛ وفعل بالكافر ذلك ليكون أشدّ لعذابه ؛ وقيل : تسحبه الملائكة إلى النار تارة تأخذ بناصيته وتجره على وجهه وتارة تأخذ بقدميه وتسحبه على وجهه.
﴿فبأي آلاء﴾ أي : نعم ﴿ربكما﴾ أي : المنعم عليكما الذي دبر مصالحكم بعد أن أوجدكم ﴿تكذبان﴾ أبتلك النعم أم بغيرها مما وعد أن يفعل من الجزاء في الآخرة لكل شخص بما كان يعمل في الدنيا أو غير ذلك من الفضل ؟
﴿هذه جهنم﴾ أي : يقال لهم إذا ألقوا فيها هذه جهنم ﴿التي يكذب﴾ أي : ماضياً وحالاً ومآلاً استهانة ؛ ولو ردّوا إلى الدنيا بعد إدخالهم إياها لعادوا لما انهوا عنه.
﴿بها المجرمون﴾ أي : المشركون الحقيقون بالإجرام، وهو قطع ما من حقه أن يوصل وهو ما أمر الله تعالى به وخص هذا الاسم إشارة إلى أنها تلقاهم بالتجهم والعبوسة والكلاحة والفظاعة كما كانوا يفعلون مع الصالحين عند الإجرام المذكور.
١٧٢
﴿يطوفون بينها﴾ أي بين درك النار ﴿وبين حميم آن﴾ أي : حارمتناه في الحرارة وهو منقوص كقاض ؛ يقال : أنى يأني فهو آن ؛ كقضى يقضي فهو قاض ؛ والمعنى أنهم يسعون بين الحميم والجحيم، فإذا استغاثوا من النار جعل عذابهم الحميم الآن الذي صار كالمهل ؛ وهو قوله تعالى :﴿وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل﴾ (الكهف : ٢٩)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٧١
وقال كعب الأحبار : وادٍ من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال فيغمسون فيه حتى تنخلع أوصالهم، ثم يخرجون منه وقد أحدث الله تعالى لهم خلقاً جديداً، فيلقون في النار، فذلك قوله تعالى :﴿يطوفون بينها وبين حميم آن﴾.
فإن قيل : هذه الأمور ليست نعمة ؟
فكيف قال عز وجل :﴿فبأيّ آلاء﴾ أي : نعم ﴿ربكما﴾ أي : المحسن أيها الثقلان إليكما ﴿تكذبان﴾ أجيب : من وجهين :
أحدهما : أن ما وصف من هول يوم القيامة وعقاب المجرمين فيه زجر عن المعاصي وترغيب في الطاعات، وهذا من أعظم النعم ؛ روي أنّ النبي ﷺ أتى على شاب يقرأ في الليل ﴿فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان﴾ (الرحمن : ٣٧)
فوقف الشاب وخنقته العبرة وجعل يقول ويحي من يوم تنشق فيه السماء ويحي فقال النبيّ ﷺ "ويحك يا فتى منها فو الذي نفسي بيده لقد بكت ملائكة السماء من بكائك".
الثاني : أنّ المعنى إن كذبتم بالنعمة المتقدّمة استحقيتم هذه العقوبات وهي دالة على الإيمان بالغيب، وهو من أعظم النعم.
ولما عرف ما للمجرم المجترئ على العظائم وقدمه لما اقتضاه مقام التكذيب من الترهيب، وجعله سابعاً إشارة إلى أبواب النار السبع، عطف عليه ما للخائف الذي أداه خوفه إلى الطاعة، وجعله ثامناً على عدد أبواب الجنة الثمانية فقال تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٧١
﴿ولمن خاف﴾ أي : من الثقلين ووحد الضمير مراعاة للفظ من إشارة إلى قلة الخائفين ﴿مقام ربه﴾ أي : قيامه بين يدي ربه للحساب بترك المعصية والشهوة ؛ قال القرطبي : ويجوز أن يكون المقام للعبد ثم يضاف إلى الله تعالى وهو كالأجل في قوله تعالى :﴿فإذا جاء أجلهم﴾ (الأعراف : ٣٤)
وقوله تعالى في موضع آخر :﴿إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر﴾ (نزح : ٤)


الصفحة التالية
Icon