قال الرازي : وعلى هذا لا تكون ليس عاملة في إذا وهي بمعنى ليس لها كاذب ﴿إذا رجت الأرض﴾ أي : كلها على سعتها وثقلها بأيسر أمر ﴿رجاً﴾ أي : حركت تحريكاً شديداً بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل، قال بعض المفسرين : ترتج كما يرتج الصبي في المهد حتى ينهدم ما عليها وينكسر كل شيء عليها من الجبال وغيرها، والرجرجة : الاضطراب، وارتج البحر وغيره واضطرب وفي الحديث :"من ركب البحر حين يرتج فلا ذمة له". يعني إذا اضطربت أمواجه والظرف متعلق بخافضة أو بدل من إذا وقعت.
ولما ذكر حركتها المزعجة أتبعها غايتها بقوله تعالى :﴿وبست الجبال بساً﴾ أي : فتتت حتى صارت كالسويق الملتوت من بس السويق إذا لتّه ؛ قال ابن عباس ومجاهد : كما يبس الدقيق أي : يلت، والبسيسة السويق، أو الدقيق يلت بالسمن أو الزيت ثم يؤكل ولا يطبخ وقد يتخذ زاداً قال الراجز :
*لا تخبزا خبزاً وبسابسا ** ولا تطيلا بمناخ حبساً*
١٨٥
أو سيقت وسيرت من بس الغنم إذا ساقها وبست الأبل وأبسستها لغتان إذا زجرتها، وقلت : بس بس قاله أبو زيد ؛ وقال الحسن : بست قلعت من أصلها فذهبت، ونظيرها ينسفها ربي نسفاً ؛ وقال عطية : بسطت بالرمل والتراب ﴿فكانت﴾ أي : بسبب ذلك ﴿هباء﴾ أي : غباراً هو في غاية الانسحاق وإلى شدّة لطافته أشار بصفته فقال تعالى :﴿منبثاً﴾ أي : منتشر متفرّقاً بنفسه من غير حاجة إلى هواء يفرقه، فهو كالذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل من كوّة ؛ وعن ابن عباس : هو ما تطاير من النار إذا أضرمت يطير منها شرر، فإذا وقع لم يكن شيئاً ﴿وكنتم﴾ أي : قسمتم بما كان في جبلاتكم وطبائعكم في الدنيا ﴿أزواجاً﴾ أي : أصنافا ﴿ثلاثة﴾ كل صنف يشاكل ما هو منه كما يشاكل الزوج الزوجة ؛ قال البيضاوي : وكل صنف يكون أو يذكر مع صنف آخر زوج.
ثم بين من هم بقوله تعالى :﴿فأصحاب الميمنة﴾ وهم الذين يؤتون كتبهم بإيمانهم مبتدأ، وقوله تعالى :﴿ما﴾ استفهام فيه تعظيم مبتدأ ثان، وقوله تعالى :﴿أصحاب الميمنة﴾ خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الأوّل، وتكرير المبتدأ بلفظه مغن عن الضمير، ومثله ﴿الحاقة ما الحاقة﴾ (الحاقة : ١ ـ ٢)
﴿القارعة ما القارعة﴾ (القارعة : ١ ـ ٢)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٨٤
ولا يكون ذلك إلا في مواضع التعظيم.
ولما ذكر الناجين بقسميهم أتبعهم أضدادهم بقوله تعالى :﴿وأصحاب المشأمة﴾ أي : الشمال وهم الذي يؤتون كتبهم بشمائلهم وقوله تعالى :﴿ما أصحاب المشأمة﴾ تحقير لشأنه بدخولهم النار، وقال السدي :﴿أصحاب الميمنة﴾ هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، ﴿وأصحاب المشأمة﴾ هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، والمشأمة الميسرة وكذا الشامة والعرب تقول لليد الشمال : الشؤمي، قال البغوي : ومنه سمى الشأم واليمن، لأنّ اليمن عن يمين الكعبة، والشام عن شمالها ؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما :﴿أصحاب الميمنة﴾ هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذرّية من صلبه، فقال الله تعالى لهم : هؤلاء في الجنة ولا أبالي ؛ وقال زيد بن أسلم : هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن ؛ وقال ابن جريج :﴿أصحاب الميمنة﴾ هم أصحاب الحسنات ﴿وأصحاب المشأمة﴾ هم ﴿أصحاب السيئات﴾.
وفي صحيح مسلم من حديث الإسراء عن أبي ذر عن النبيّ ﷺ قال :"فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة قال : فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى قال : فقال : مرحباً بالنبيّ الصالح والابن الصالح، قال : قلت : يا جبريل من هذا ؟
قال : آدم عليه السلام وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه، فأهل اليمين أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار". وذكر الحديث وقال المبرّد : أصحاب الميمنة : أصحاب التقدّم وأصحاب المشأمة : أصحاب التأخر والعرب تقول اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك، أي : اجعلني من المتقدّمين، ولا تجعلني من المتأخرين.
تنبيه : الفاء في قوله تعالى :﴿فأصحاب﴾ تدل على التقسيم وبيان ما ورد عليه التقسيم، كأنه قال : أزواجاً ثلاثة أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون، ثم بين حال كل قسم فقال : فأما أصحاب الميمنة وترك التقسيم أولاً واكتفى بما يدل عليه بأنّ ذكر الأقسام الثلاثة مع أحوالها،
١٨٦
فإن قيل : ما الحكمة في اختيار لفظ المشأمة في مقابلة الميمنة مع أنه قال في بيان أحوالهم : وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال ؟
أجيب : بأنّ اليمين وضع للجانب المعروف، واستعملوا منه ألفاظاً في مواضع، فقالوا : هذا ميمون تيمناً به، ووضعوا مقابلة اليمين اليسار من الشيء اليسير إشارة إلى ضعفه، واستعملوا منه ألفاظاً تشاؤماً به فذكر المشأمة في مقابلة الميمنة، وذكر الشمال في مقابلة اليمين، فاستعمل كل لفظ مع مقابلة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٨٤


الصفحة التالية
Icon