﴿وأصحاب الشمال﴾ أي : الجهة التي تتشاءم العرب بها ويعبر بها عن الشيء الأخس والحظ الأنقص قال البقاعي : والظاهر أنهم أدنى أصحاب المشأمة كما أن أصحاب اليمين دون السابقين من أصحاب الميمنة ثم عظم ذمهم ومصابهم فقال تعالى :﴿ما أصحاب الشمال﴾ أي : أنهم بحال من الشؤم هو جدير بأن يسأل عنه وسماهم بذلك لأنهم يأخذون كتبهم بشمالهم ثم بين متقلبهم وما أعدّ لهم من العذاب فقال تعالى :﴿في سموم﴾ أي : ريح حارة من النار تنفذ في المسام ﴿وحميم﴾ أي : ماء حار بالغ في الحرارة إلى حدّ يذيب اللحم ﴿وظل من يحموم﴾ أي : دخان أسود كالحمم أي الفحم شديد السواد ؛ وقيل : النار سوداء وأهلها سود وكل شيء فيها أسود ؛ وقيل : اليحموم اسم من أسماء النار ؛ قال الرازي : وفي الأمور الثلاثة إشارة إلى كونهم في العذاب دائماً لأنهم إن تعرضوا لمهب الهواء أصابهم السموم، وإن استكنوا كما يفعل الذي يدفع عن نفسه السموم بالاستكنان بالكن يكونون في ظلّ من يحموم، وإن أرادوا التبرّد بالماء من حرّ السموم يكون الماء من حميم فلا إنفكاك لهم من العذاب ؛ أو يقال : أن السموم تضربه فيعطس وتلتهب نار السموم في أحشائه فيشرب الماء فيقطع أمعاءه فيريد الاستظلال بظل فيكون ذلك الظل اليحموم ؛ وذكر السموم والحميم دون النار تنبيهاً بالأدنى على الأعلى كأنه قال أبرد الأشياء في الدنيا حارّ عندهم فكيف أحرّها ؟
وقوله تعالى ﴿لا بارد﴾ أي : ليروح النفس ﴿ولا كريم﴾ أي : ليؤنس به ويلجأ إليه صفتان للظل كقوله تعالى :﴿من يحموم﴾ وقال الضحاك : لا بارد أي : كغيره من الظلال بل حار لأنه من دخان شفير جهنم ولا كريم عذب ؛ وقال سعيد بن المسيب : ولا حسن منظره وكل شيء لا خير فيه ليس بكريم فسماه ظلاً ونفى عنه برد الظل وروحه ونفعه من يأوى إليه من أذى الحرّ، وذلك كرمه ليمحو ما في مدلول الظن من الاسترواح إليه، والمعنى : أنه ظل حارّ ضارّ إلا أن للنفي في نحو هذا شأناً ليس للإثبات وفيه تهكم بأصحاب المشأمة وأنهم لا يستأهلون الظل البارد الكريم الذي هو لأضدادهم في الجنة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٩٦
ثم بين استحقاقهم لذلك بقوله تعالى :﴿إنهم كانوا﴾ أي : في الدنيا قبل ذلك أي الأمر العظيم الذي وصلوا إليه ﴿مترفين﴾أي : أنهم إنما استحقوا هذه العقوبة لأنهم كانوا في الدنيا في سعة من العيش متمكنين في الشهوات مستمتعين بها متمكنين منها ﴿وكانوا يصرّون﴾ أي : يقيمون
١٩٦
ويديمون على سبيل التجديد لما لهم من الميل الجبلي إلى ذلك ﴿على الحنث﴾ أي : الذنب ويعبر بالحنث عن البلوغ ومنه قولهم : لم يبلغوا الحنث، وإنما قيل ذلك لأنّ الإنسان عند بلوغه إليه يؤاخذ بالحنث أي : الذنب، وتحنث فلان أي : جانب الحنث، وفي الحديث :"كان يتحنث بغار حراء" أي : يتعبد لمجانبة الإثم نحو خرج فتفعل في هذه كلها للسلب.
ولما كان ذلك قد يكون من الصغائر التي تغفر قال تعالى :﴿العظيم﴾ أي : وهو الشرك قاله الحسن والضحاك ؛ وقال مجاهد : هو الذنب الذي لا يتوبون منه ؛ وقال الشعبي : هو اليمين الغموس وهو من الكبائر يقال حنث في يمينه، أي : لم يبرها ورجع فيها، وكانوا يقسمون أن لا بعث وأنّ الأصنام أنداد الله تعالى فذلك حنثهم، فإن قيل : الترفه هو التنعم وذلك لا يوجب ذمّاً ؟
أجيب : بأنّ الذمّ إنما حصل بقوله تعالى :﴿وكانوا يصرّون على الحنث العظيم﴾ فإن صدور المعاصي ممن كثرت النعم عليه أقبح القبائح وفي الآية مبالغات، لأنّ قوله تعالى :﴿يصرون﴾ يقتضي أنّ ذلك عادتهم والإصرار مداومة المعصية ولأنّ الحنث أبلغ من الذنب لأن الذنب يطلق على الصغيرة ويدل على ذلك قولهم : بلغ الحنث أي : بلغ مبلغاً تلحقه فيه الكبيرة، ووصفه بالعظيم يخرج الصغائر فإنها لا توصف بذلك ؛ قال الرازي : والحكمة في ذكره سبب عذابهم ولم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم فلم يقل إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين وذلك تنبيه على أنّ الثواب منه فضل والعقاب منه عدل، والفضل سواء ذكر سببه أو لم يذكر يتوهم بالتفضل نقص وظلم، وأما العدل إن لم يعلم سبب العقاب يظن أنّ هناك ظلماً، ويدل على ذلك أنه تعالى لم يقل في حق أصحاب اليمين ﴿جزاء بما كانوا يعملون﴾ كما قال في السابقين لأنّ أصحاب اليمين نجوا بالفضل العظيم لا بالعمل بخلاف من كثرت حسناته يحسن إطلاق الجزاء في حقه.


الصفحة التالية
Icon