﴿وكانوا﴾ أي : زيادة على ما ذكر ﴿يقولون﴾ أي : إنكاراً مجددين لذلك دائماً عناداً ﴿أئذا﴾ أي أنبعث إذا ﴿متنا وكنا﴾ أي كوناً ثابتاً ﴿تراباً وعظاماً﴾ ثم أعادوا الاستفهام تأكيداً لإنكارهم فقالوا :﴿أئنا لمبعوثون﴾ أي : كائن وثابت بعثنا ساعة من الدهر وأكدوا ليكون إنكارهم لما دون ذلك بطريق الأولى وقرأ قالون أئذا بتحقيق الهمزة الأولى، المفتوحة وتسهيل الثانية المكسورة وإدخال ألف بينهما وكسر الميم من متنا وهمزة واحدة مكسورة في أئناء، وقرأ ورش بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية ولا إدخال بينهما وكسر ميم متنا وهمزة واحدة مكسورة في أئنا مع النقل عن أصله ؛ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : بالاستفهام فيهما مع تسهيل الثانية إلا أنّ أبا عمرو يدخل بينهما ألفاً فيهما وابن كثير لا يدخل ألفاً وضما ميم متنا ﴿أو آباؤنا﴾ أي : أو تبعث آباؤنا ﴿الأولون﴾ أي : الذين قد بليت مع لحومهم عظامهم فصاروا كلهم تراباً ولا سيما أن حملتهم السيول ففرّقت أعضاءهم وذهبت بها في الآفاق ؛ فإن قيل : كيف حسن العطف على المضمر في لمبعوثون من غير تأكيد بنحن ؟
أجيب بأنه حسن للفاصل الذي هو الهمزة كما حسن في قوله تعالى :﴿ما أشركنا ولا آباؤنا﴾ (الأنعام : ١٤٨)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٩٦
لفصل لا المؤكدة للنفي، وقرأ قالون وابن عامر : بسكون الواو من أو والباقون بفتحها.
ثم ردّ الله تعالى عليهم قولهم ذلك بقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
١٩٧
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٩٦
﴿قل﴾ أي : لهؤلاء ولكل من كان مثلهم وأكد لإنكارهم ﴿إن الأولين﴾ أي : الذين جعلتم الاستبعاد فيهم وهم الآباء ﴿والآخرين﴾ وهم الأبناء ﴿لمجموعون﴾ أي : في المكان الذي يكون فيه الحساب ﴿إلى ميقات يوم﴾ أي : زمان ﴿معلوم﴾ أي : معين عند الله تعالى وهو يوم القيامة إذ هو من شأنه أن يعلم بما عليه من الأمارات والميقات ما وقت به الشيء من زمان أو مكان إلى حد ﴿ثم إنكم﴾ أي : بعد هذا الجمع ﴿أيها الضالون﴾ أي : الذين غلبت عليهم الغباوة فهم لا يفهمون فضلوا عن الهدى ثم اتبع ذلك ما أوجب الحكم عليهم بالضلال فقال تعالى :﴿المكذبون﴾ بالبعث والخطاب لأهل مكة ومن في مثل حالهم ﴿لآكلون من شجر من زقوم﴾ وهو من أخبث الشجر المر بتهامة ينبتها الله تعالى في الجحيم فهو في غاية الكراهة وبشاعة المنظر ونتن الرائحة وقد مرّ الكلام على ذلك في الصافات
تنبيه : من الأولى لابتداء الغاية والثانية لبيان الشجر ﴿فمالؤن﴾ أي : ملأ هو في غاية الثبات وأنتم في غاية الإقبال عليه مع ما هو عليه من عظيم الكراهة ﴿منها﴾ أي : الشجر وأنثه لأنه جمع شجرة وهو اسم جنس، قال البقاعي : وهم يكرهون الإناث فتأنيثه والله أعلم زيادة في تنفيرهم ؛ وقال الزمخشري : أنت ضمير الشجر على المعنى وذكره على اللفظ في قوله :﴿منها﴾ وعليه وهو لف ونشر مرتب ﴿البطون﴾ أي : يضطركم إلى تناول هذا الكريه حتى تملؤا بطونكم منه.
ثم لما بين أكلهم أتبعه مشربهم فقال تعالى :﴿فشاربون عليه﴾ أي : الأكل أو الزقوم ﴿من الحميم﴾ لأجل مرارته وحرارته يحتاجون إلى شرب الماء فيشربون من الماء الحار ﴿فشاربون﴾ أي : منه ﴿شرب الهيم﴾ أي : الإبل العطاش وهو جمع هيمان للذكر وهيمى للأنثى كعطشان وعطشى، والهيام : داء معطش تشرب الإبل منه إلى أن تموت أو تسقم سقماً شديداً ؛ وقيل : إنه جمع هائم وهائمة من الهيام أيضاً إلا أن جمع فاعل وفاعلة على فعل قليل نحو نازل ونزل وعائد وعود ؛ وقيل : إنه جمع هيام بفتح الهاء وهو الرمل غير المتماسك الذي لا يروى من الماء أصلاً فيكون مثل سحاب وسحب بضمتين ثم خفف بإسكان عينه ثم كسرت فاؤه لتصح الباء كما فعل بالذي قبله، والمعنى : أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرّهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل فإذا ملؤوا منه البطون سلط عليهم من العطش ما يضطرّهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاؤهم
١٩٨
فيشربون منه شرب الهيم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٩٨
فإن قيل : كيف صح عطف الشاربين على الشاربين وهما لذوات متفقة وصفتان متفقتان فكان عطفاً للشيء على نفسه ؟
أجيب : بأنهما ليستا بمتفقتين من حيث أن كونهم شاربين الحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة وقطع أمعائهم أمر عجيب فشربهم له على ذلك كما يشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضاً فكانتا صفتين مختلفتين ؛ وقرأ نافع وعاصم وحمزة : بضم الشين والباقون بفتحها.
﴿هذا﴾ أي : ما ذكر ﴿نزلهم﴾ أي : ما يعدّ لهم أول قدومهم مكان ما يعد للضيف أول حلوله كرامة له ﴿يوم الدين﴾ أي : الجزاء الذي هو حكمة القيامة وإذا كان هذا نزلهم فما ظنك بما يأتي بعدما استقرّوا في الجحيم وفي هذا تهكم كما في قوله تعالى :﴿فبشرهم بعذاب أليم﴾ (آل عمران : ٢١)


الصفحة التالية
Icon