تنبيه : في التعبير بالمضارع دلالة على ما أودع في الخافقين من القوى فصارا بحيث يتجدد منهما ذلك بخلقه تجدّد مستمرّاً إلى حين خرابهما ﴿وما ينزل من السماء﴾ من الوحي والأمطار والحرّ والبرد وغيرها من الأعيان والمنافع التي يوجدها سبحانه وتعالى من مقادير أعمار بني آدم وأرزاقهم وغيرها من جميع شؤونهم ﴿وما يعرج﴾ أي : يصعد ويرتقي ويغيب ﴿فيها﴾ كالأبخرة والأنوار والكواكب والأعمال وغيرها ولم يجمع السماء لأنّ المقصود حاصل بالواحدة مع إفهام التعبير بها الجنس الشامل للكل ﴿وهو معكم﴾ بالعلم والقدرة أيها الخلق ﴿أينما كنتم﴾ لا ينفك علمه وقدرته عنكم بحال فهو عالم بجميع أموركم وقادر عليكم تعالى الله عن اتصال بالعالم ومماسة أو انفصال عنه بغيبة أو مسافة ﴿والله﴾ أي : المحيط بجميع صفات الكمال ﴿بما تعملون﴾ أي : على سبيل التجدّد والاستمرار ﴿بصير﴾ أي : عالم بجليله وحقيرة فيجازيكم به وقدم الجار لمزيد الاهتمام والتنبيه على تحقيق الإحاطة ﴿له﴾ أي : وحده ﴿ملك السموات﴾ وجمع لاقتضاء المقام له ﴿والأرض﴾ وأفرد لخفاء تعدّدها عليهم مع إرادة الجنس، ودل على إرادة ملكه وإحاطته بقوله تعالى :﴿وإلى الله﴾ أي : الملك الذي لا كفؤ له وحده ﴿ترجع﴾ بكل اعتبار على غاية السهولة ﴿الأمور﴾ أي : كلها حساً لبعث ومعنى بالابتداء والإفناء ودل على ذلك بقوله تعالى :﴿يولج﴾ أي : يدخل ويغيب بالنقص والمحو ﴿الليل في النهار﴾ فإذا هو قد قصر بعد طوله وقد انمحى بعد شخوصه وحلوله، وزاد النهار وملأ الضياء الأقطار بعد ذلك الظلام ﴿ويولج النهار﴾ الذي عمّ الكون ضياؤه ﴿في الليل﴾ الذي كان قد غاب في علمه فإذا الظلام قد طبق الآفاق فيزيد الليل والطول الذي كان في النهار قد صار نقصاً ﴿وهو﴾ أي : وحده ﴿عليم﴾ أي : بالغ العلم ﴿بذات الصدور﴾ أي : بما فيها من الأسرار والمعتقدات على كثرة اختلافها وتغيرها وإن خفيت على أصحابها.
ولما قامت الأدلة على تنزيهه سبحانه قال تعالى آمراً بالإذعان له ولرسوله صلى الله عليه وسلم
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢١٠
﴿آمنوا﴾ أي : أيها الثقلان ﴿بالله﴾ أي : الملك الأعظم الذي لا مثل له ﴿ورسوله﴾ الذي عظمته من عظمته، ونزل في غزوة العسرة وهي غزوة تبوك ﴿وأنفقوا﴾ أي : في سبيل الله ﴿مما جعلكم مستخلفين فيه﴾ أي : من الأموال التي في أيديكم فإنها أموال الله تعالى لأنها بخلقه وإنشائه لها، وإنما موّلكم إياها وخولكم بالاستمتاع بها وجعلكم خلفاء في التصرّف فيها فليست هي بأموالكم في الحقيقة وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى وليهن عليكم الإنفاق منها كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه، أو جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما في
٢١٢
أيديكم بتوريثه إياكم فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم وسينقل منكم إلى من بعدكم، فلا تبخلوا به وانفعوا بالإنفاق منها أنفسكم.
ولما أمر تعالى بالإنفاق ووصفه بما سهله سبب عنه ما يرغب فيه فقال تعالى :﴿فالذين آمنوا منكم وأنفقوا﴾ من أموالهم في الوجوه التي ندب إليها على وجه الإصلاح على ما دلّ عليه التعبير بالإنفاق ﴿لهم أجر كبير﴾ أي : لا تبلغ عقولكم حقيقة كبره فاغتنموا الإنفاق في أيام استخلافكم قبل عزلكم وإتلافكم، وخصهم بالذكر بقوله تعالى :﴿منكم﴾ لضيق في زمانهم، وقيل : إنّ ذلك إشارة إلى عثمان فإنه جهز جيش العسرة.
وقوله تعالى :﴿وما﴾ أي : وأيّ شيء ﴿لكم﴾ من الأعذار أو غيرها في أنكم أو حال كونكم ﴿لا تؤمنون بالله﴾ أي : تجدّدون الإيمان تجديداً مستمراً بالملك الأعلى، أي : الذي له الملك كله والأمر كله خطاب للكفار، أي : لا مانع لكم بعد سماعكم ما ذكر ﴿والرسول﴾ أي : والحال أن الذي له الرسالة العامة ﴿يدعوكم﴾ في الصباح والمساء ﴿لتؤمنوا﴾ أي : لأجل أن تؤمنوا ﴿بربكم﴾ الذي أحسن تربيتكم بأن جعلكم من أمّة هذا النبيّ الكريم فشرفكم به ﴿وقد﴾ أي : والحال أنه قد ﴿أخذ ميثاقكم﴾ أي : وقع أخذه فصار في غاية القباحة، ترك التوثق بسبب نصب الأدلة والتمكين من النظر بإبداع العقول وذلك كله منضم إلى أخذ الذرّية من ظهر آدم عليه السلام حين أشهدهم على أنفسهم ﴿ألست بربكم قالوا بلى﴾ (الأعراف : ١٧٢)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢١٢