﴿سابقوا﴾ أي : سارعوا مسارعة المسابقين في المضمار ﴿إلى مغفرة﴾ أي : ستر لذنوبكم عيناً وأثراً ﴿من ربكم﴾ أي : المحسن إليكم بأنواع الخيرات التي توجب المغفرة لكم من ربكم، وقال الكلبي : سارعوا بالتوبة لأنها تؤدي إلى المغفرة، وقال مكحول : هي التكبيرة الأولى مع الإمام، وقيل : الصف الأول ﴿وجنة﴾ أي : وبستان هو من عظم أشجاره واطراد أنهاره بحيث يستر داخله ﴿عرضها كعرض السماء والأرض﴾ أي : السموات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها ببعض لكان عرض الجنة في قدرها جميعاً، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد أن لكل واحد من المطيعين جنة بهذه السعة، وقال مقاتل : إنّ السموات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها إلى بعض لكانت عرض جنة واحدة من الجنان، وسأل عمر ناس من اليهود إذا كانت الجنة عرضها ذلك فأين النار ؟
فقال لهم : أرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار ؟
وإذا جاء النهار أين يكون الليل ؟
فقالوا : إنه لمثلهما في التوراة. ومعناه : أنه حيث شاء الله وهذا عرضها ولا شك أن الطول أزيد من العرض فذكر العرض تنبيهاً على أن طولها أضعاف ذلك، وقيل إن هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه ويقع في أنفسهم وأفكارهم وأكثر ما يقع في أنفسهم مقدار السموات والأرض فشبه عرض الجنة بما تعرفه الناس ﴿أعدت﴾ أي : هيئت هذه الجنة الموعود بها وفرغ من أمرها بأيسر أمر ﴿للذين آمنوا﴾ أي : أوقعوا هذه الحقيقة ﴿بالله﴾ أي : الذي له جميع العظمة لأجل ذاته مخلصين له الإيمان ﴿ورسله﴾ فلم يفرقوا بين أحد منهم وفي هذا أعظم رجاء وأقوى أمل لأنه ذكر أنّ الجنة أعدت لمن آمن بالله ورسله ولم يذكر مع الإيمان شيئاً آخر، يدل عليه قوله تعالى في سياق الآية ﴿ذلك﴾ أي : الفضل العظيم جداً ﴿فضل الله﴾ أي : الملك الذي لا كفؤ له فلا اعتراض عليه ﴿يؤتيه من يشاء﴾ فبين أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله لا بعمله، لما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ "لن يدخل الجنة أحداً منكم عمله
٢٢٢
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٢٢
قالوا : ولا أنت يا رسول الله قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمة". ولا ينافي ذلك قوله تعالى :﴿ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون﴾ لأنّ الباء في الحديث عوضيه، وفي الآية سببية، فإن قيل : يلزم على هذا أن يقطع بحصول الجنة لجميع العصاة وأن يقطع بأنه لا عقاب عليهم ؟
أجيب : بأنا نقطع بحصول الجنة ولا نقطع بنفي العقاب عنهم لأنهم إذا عذبوا مدة ثم نقلوا إلى الجنة بقوا فيها أبد الآباد فكانت معدة لهم ﴿والله﴾ أي : والحال أنّ الملك المختص بجميع صفات الكمال فله الأمر كله ﴿ذو الفضل العظيم﴾ أي : الذي جل أن تحيط بوصفه العقول ﴿ما أصاب من مصيبة في الأرض﴾ أي : من قحط المطر وقلة النبات ونقص الثمرات وغلاء الأسعار وتتابع الحوائج وغير ذلك ﴿ولا في أنفسكم﴾ أي : من الأمراض والفقر وذهاب الأولاد وضيق العيش وغير ذلك ﴿إلا في كتاب﴾ أي : مكتوبة في اللوح مثبتة في علم الله تعالى :﴿من قبل أن نبرأها﴾ أي : نخلق ونوجد ونقدر المصيبة في الأرض والأنفس، وهذا دليل على أنّ اكتساب العباد بخلقه سبحانه وتعالى وتقديره ﴿إن ذلك﴾ أي : الأمر الجليل وهو علمه بالشيء وكتبه له على تفاصيله قبل أن يخلقه ﴿على الله﴾ أي : لما له من الإحاطة بصفات الكمال ﴿يسير﴾ لأن علمه محيط بكل شيء فقدرته شاملة لا يعجزه فيها شيء.
ثم بين ثمرة إعلامه بذلك بقوله تعالى :﴿لكيلا﴾ أي : أعلمناكم بأنا على مالنا من العظمة قد فرغنا من التقدير فلا يتصور فيه تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير لا الحزن يدفعه ولا السرور يجلبه ويجمعه كما قال ﷺ "يا معاذ ليقل همك ما قدر يكن" لأجل أن ﴿لا تأسوا﴾ أي : تحزنوا حزناً كبيراً زائداً على ما في أصل الجبلة فربما جرّ ذلك إلى السخط وعدم الرضا بالقضاء ﴿على ما فاتكم﴾ أي : من المحبوبات الدنيوية ﴿ولا تفرحوا﴾ أي : تسروا سروراً يوصلكم إلى البطر بالتمادي على ما في أصل الجبلة وقوله تعالى :﴿بما آتاكم﴾ قرأه أبو عمرو بقصر الهمزة، أي : جاءكم منه، والباقون بالمد أي أعطاكم قال جعفر الصادق رضي الله عنه : مالك تأسف على مفقود ولا يردّه عليك الفوت ومالك تفرح بموجود ولا يتركه في يدك الموت ا. ه.