ولما كانوا يخفون ذلك جهدهم ويظنون بإملاء الله تعالى لهم أنه ﷺ لا يطلع عليه وإن اطلع عليه لم يقدر أن ينتقم منهم عبر عن ذلك بقوله تعالى :﴿ويقولون في أنفسهم﴾ من غير أن يطلع عليه أحد ﴿لولا﴾ أي : هلا ولم لا ﴿يعذبنا الله﴾ أي : الذي له الإحاطة بكل شيء ﴿بما نقول﴾ أي : لو كان نبيناً لعذبنا الله بما نقول وقيل : قالوا إنه يردّ علينا ويقول : وعليكم السام فلو كان نبياً لاستجيب له فينا ومتنا وهذا موضع تعجب منهم فإنهم كانوا أهل الكتاب وكانوا يعلمون أنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يغضبون فلا يعاجلون من يغضبهم بالعذاب ﴿حسبهم﴾ أي : كافيهم في الانتقام ﴿جهنم﴾ أي : الطبقة التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة والفظاظة فإن حصل لهم في الدنيا عذاب كان زيادة على الكفاية فاستعجالهم بالعذاب محض رعونة ﴿يصلونها﴾ أي : يقاسون عذابها دائماً، فإنا قد أعددناها لهم ﴿فبئس المصير﴾ أي : مصيرهم.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٣٦
يا أيها الذين آمنوا﴾ أي : ادعوا أنهم أوجدوا هذه الحقيقة ﴿إذا تناجيتم﴾ أي : اطلع كل منكم الكلام من نفسه فرفعه وكشفه لصاحبه سرّاً ﴿فلا تتناجوا﴾ أي : توجدوا هذه الحقيقة ﴿بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول﴾ أي : الكامل في الرسالة كفعل المنافقين واليهود، وقال مقاتل : أراد
٢٣٩
تعالى بقوله :﴿آمنوا﴾ المنافقين آمنوا بلسانهم، وقال عطاء : يريد الذين آمنوا بزعمهم، وقيل : يا أيها الذين آمنوا بموسى ﴿وتناجوا بالبرّ والتقوى﴾ أي : الطاعة والعفاف عما نهى الله تعالى عنه ﴿واتقوا الله﴾ أي : اقصدوا قصداً يتبعه العمل بأن تجعلوا بينكم وبين سخط الملك الأعظم وقاية ﴿الذي إليه﴾ خاصة ﴿تحشرون﴾ أي : تجمعون بأيسر أمر وأسهله بقهر وكره وهو يوم القيامة، فيتجلى فيه سبحانه للحكم بين الخلق والإنصاف بينهم بالعدل ومحاسبتهم على النقير والقطمير، لا تخفى عليه خافية ولا تقي منه واقية.
﴿إنما النجوى﴾ أي : المعهود وهي المنهي عنها ﴿من الشيطان﴾ أي : مبتدئة وممتدّة من المحترق بطرده عن رحمة الله تعالى، فإنه الحامل عليها بتزيينها ففاعلها تابع لأعدى أعدائه مخالف لأعظم أوليائه ﴿ليحزن﴾ أي : الشيطان ﴿الذين آمنوا﴾ أي : ليوهمهم أنها لسبب شيء وقع مما يؤذيهم، والحزن همّ غليظ وتوجع يدق، يقال : حزنه وأحزنه بمعنى، قال في القاموس : أو أحزنه جعله حزيناً.
وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي من أحزنه، والباقون بفتح الياء وضم الزاي من حزن، والقراءة الأولى أشد في المعنى على ما في القاموس
﴿وليس﴾ أي : الشيطان أو ما حمل عليه من التناجي ﴿بضارهم﴾ أي : الذين آمنوا ﴿شيأ﴾ من الضرر وإن قلّ ﴿إلا بأذن الله﴾ أي : بمشيئة الملك المحيط علماً وقدرة.
فإن قيل : كيف لا يضرّهم ذلك ولا يحزنهم إلا بإذن الله ؟
أجيب : بأنهم كانوا يوهمون المؤمنين في نجواهم وتفاخرهم أنّ غزاتهم غلبوا وأنّ أقاربهم قتلوا فقال تعالى :﴿لا يضرّهم الشيطان﴾ والحزن بذلك الموهم إلا بأذن الله تعالى أي : بمشيئته وهو أن يقضي الموت على أقاربهم والغلبة على الغزاة ﴿وعلى الله﴾ أي : الملك الذي لا كفء له لا على أحد غيره ﴿فيتوكل المؤمنون﴾ أي : الراسخون في الإيمان في جميع أمورهم، فإنه القادر وحده على إصلاحها وإفسادها فلا يحزنوا من أحد أن يكيدهم بسرّه ولا يجهره فإنهم توكلوا عليه وفوّضوا أمورهم إليه، وخص الراسخين لإمكان ذلك منهم في العادة، وأمّا أصحاب البدايات فلا يكون ذلك منهم إلا خرق عادة، روى ابن عمر أنّ رسول الله ﷺ قال :"إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بأذنه فإنّ ذلك يحزنه" وعن عبد الله بن مسعود أنّ رسول الله ﷺ قال :"إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى يختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه" فبين في هذا الحديث غاية المنع وهو أن يجد الثالث من يتحدّث معه كما فعل ابن عمر وذلك أنه كان يتحدث مع رجل فجاء آخر يريد أن يناجيه فلم يناجه حتى دعا رابعاً فقال له وللأول تأخرا وناجى الرجل الطالب للمناجاة، أخرجه في الموطأ ونبه على العلة بقوله : من أجل أن يحزنه أي : يقع في نفسه ما يحزن لأجله وعلى هذا يستوي في ذلك كل الأعداد فلا يتناجى أربعة دون واحد ولا عشرة ولا ألف مثلاً، لوجود ذلك المعنى في حقه بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع فيكون بالمنع أولى، وإنما خص الثلاثة
٢٤٠
بالذكر، لأنه أوّل عدد يتأتى ذلك فيه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٣٦