قال القرطبي : وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال وذهب إليه ابن عمر ومالك والجمهور وسواء أكان التناجي في واجب أو مندوب أو مباح فإنّ الحزن ثابت به، وقد ذهب بعض الناس إلى أنّ ذلك كان في أوّل الإسلام لأنّ ذلك كان حال المنافقين فيتناجى المنافقون دون المؤمنين فلما فشا الإسلام سقط ذلك، وقال بعضهم : ذلك خاص بالسفر وفي المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه فأمّا الحضر وبين العمارة فلا ؛ لأنه يجد من يغيثه بخلاف السفر فإنه مظنة الاغتيال وعدم الغوث
ولما نهى المؤمنين عما يكون سبباً للتباغض والتنافر أمرهم الآن بما يصير سبباً لزيادة المحبة والمودّة بقوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٣٦
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي : الذين اتصفوا بهذا الوصف ﴿إذا قيل لكم﴾ أي : من أيّ قائل كان فإنّ الخير يرغب فيه لذاته ﴿تفسحوا﴾ أي : توسعوا أي : كلفوا أنفسكم في اتساع المواضع ﴿في المجلس﴾ أي : الجلوس أو مكانه لأجل من يأتي فلا يجد مجلساً يجلس فيه، قال قتادة ومجاهد :"كانوا يتنافسون في مجلس النبيّ ﷺ فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض"، وقال ابن عباس : المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب، قال الحسن وزيد بن أبي حبيب "كان النبيّ ﷺ إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه على الصف الأوّل فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال والشهادة فنزلت". فيكون كقوله تعالى :﴿مقاعد للقتال﴾ (آل عمران : ١٢١)
وقال مقاتل "كان النبيّ ﷺ في الصفة وكان في المكان ضيق وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين، والأنصار فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجلس، فقاموا قبل النبيّ ﷺ على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف رسول الله ﷺ ما يحملهم على القيام وشق ذلك على رسول الله ﷺ فقال لمن حوله من غير أهل بدر : قم يا فلان بعدد القائمين من أهل بدر فشق ذلك على من قام، وعرف النبيّ ﷺ الكراهة في وجوههم فقال المنافقون : والله ما عدل على هؤلاء أنّ قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ" فنزلت الآية يوم الجمعة
وروي عن ابن عباس قال :"نزلت الآية في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه دخل المسجد وقد أخذ القوم مجالسهم وكان يريد القرب من رسول الله ﷺ للوقر أي : الصمم الذي كان في أذنيه فوسعوا له حتى قرب من رسول الله ﷺ ثم ضايقه بعضهم وجرى بينه وبينهم كلام فنزلت" وقد تقدّمت قصته في سورة الحجرات. وقرأ عاصم : يفتح الجيم، ألف بعدها جمعاً لأنّ لكل جالس مجلساً أي : فليفسح كل واحد في مجلسه والباقون بسكون الجيم ولا ألف إفرادا، قال البغوي : لأنّ المراد منه مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٤١
وقال القرطبي : الصحيح في الآية أنها عامة في مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير وللأجر سواء أكان مجلس حرب أو ذكر أو مجلس يوم الجمعة، وإنّ كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه قال ﷺ "من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ بذلك
٢٤١
فيخرجه الضيق من موضعه" فيكون المراد بالمجلس الجنس ويؤيده قراءة الجمع ﴿فافسحوا﴾ أي : وسعوا فيه عن سعة صدر ﴿يفسح الله﴾ أي : الذي له الأمر كله ﴿لكم﴾ في كل ما تكرهون ضيقه من الدارين.
وقال الرازي : هذا يطلق فيما يطلب الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة قال : ولا ينبغي للعاقل أن يقيد الآية بالتفسح في المجلس بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه.
وإذا قيل : أي من أيّ قائل كان كما مضى إذا كان يريد الإصلاح والخير ﴿انشزوا﴾ أي : ارتفعوا وانهضوا إلى الموضع الذي تؤمرون به أو يقتضيه الحال للتوسعة أو غيرها من الأوامر كالصلاة والجهاد ﴿فانشزوا﴾ أي : فارتفعوا وانهضوا ﴿يرفع الله﴾ أي : الذي له جميع صفات الكمال ﴿الذين آمنوا﴾ وإن كانوا غير علماء ﴿منكم﴾ أي : أيها المأمورون بالتفسح السامعون للأوامر المبادرون إليها بطاعتهم لرسول الله ﷺ وقيامهم في مجلسهم وتوسعهم لإخوانهم ﴿والذين أوتوا العلم درجات﴾ يجوز أن يكون معطوفاً على الذين آمنوا فهو من عطف الخاص على العام فإنّ الذين أوتوا العلم بعض المؤمنين، ويجوز أن يكون والذين أوتوا العلم من عطف الصفات أي : تكون الصفتان لذات واحدة كأنه قيل : يرفع الله المؤمنين العلماء ودرجات مفعول ثان، وقال ابن عباس : تمّ الكلام عند قوله تعالى :﴿منكم﴾ وينتصب الذين أوتوا بفعل مضمر أي : ويخص الذين أوتوا العلم درجات أو ويرفع درجات.


الصفحة التالية
Icon