واختلف في سبب نزول قوله تعالى :﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي : ادعوا أنهم أوجدوا هذه الحقيقة أغنياء كانوا أو فقراء ﴿إذا ناجيتم الرسول﴾ أي : أردتم مناجاة الذي لا أكمل منه في الرسالة الآية، فقال ابن عباس :"إنّ المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله ﷺ حتى شقوا عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية فكف كثير من الناس". وقال الحسن :"أنّ قوماً من المسلمين كانوا يستخلون بالنبيّ ﷺ يناجونه، فظنّ بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى فشق عليهم ذلك فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه".
وقال زيد بن أسلم "إنّ المنافقين واليهود كانوا يناجون النبيّ ﷺ ويقولون : إنه أذن يسمع كل ما قيل له، وكان لا يمنع أحداً من مناجاته فكان ذلك يشق على المسلمين لأنّ الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم يناجون أنّ جموعاً اجتمعت للقتال فنزلت ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول﴾" أي : أردتم مناجاته ﴿فقدّموا﴾ أي : بسبب هذه الإرادة وقوله تعالى :﴿بين يدي نجواكم﴾ استعارة ممن له يدان والمعنى : قبل نجواكم التي هي سرّكم الذي تريدون أن ترفعوه ﴿صدقة﴾ لقول عمر من أفضل ما أوتيت العرب الشعر يقدّمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم ويستنزل به اللئيم يريد قبل حاجته، والصدقة تكون لكم برهاناً على إخلاصكم كما ورد أنّ الصدقة برهان فهي مصدّقة لكم في دعوى الإيمان بالله تعالى ورسوله ﷺ وبكل ما جاء به عن الله تعالى.
تنبيه : ظاهر الآية يدل على أنّ تقديم الصدقة كان واجباً لأنّ الأمر للوجوب ويؤكد ذلك قوله تعالى بعده :﴿فإنّ لم تجدوا فإنّ الله غفور رحيم﴾ وقيل : كان مندوباً لقوله تعالى :﴿ذلك﴾ أي : التصدّق ﴿خير لكم وأطهر﴾ أي : لأنفسكم من الريبة وحب المال هذا إنما يستعمل في التطوّع لا في الواجب ولأنه لو كان واجباً لما أزيل وجوبه والكلام متصل به وهو قوله تعالى :﴿فإن لم تجدوا﴾ الآية.
٢٤٤
وأجيب عن الأوّل : بأنّ المندوب كما يوصف بأنه خير وأطهر فكذلك أيضاً يوصف بهما الواجب.
وعن الثاني : بأنه لا يلزم من اتصال الآيتين في التلاوة كونهما متصلتين في القول كما قيل في الآية الدالة على وجوب الاعتداد أربعة أشهر وعشراً أنها ناسخة للاعتداد بحول وإن كان الناسخ متقدّماً في التلاوة.
وعن علي أنه قال :"لما نزلت دعاني رسول الله ﷺ فقال : ما تقول في دينار ؟
قلت : لا يطيقونه، قال : كم ؟
قلت : حبة أو شعيرة قال إنك لزهيد فلما رأوا ذلك اشتدّ عليهم فارتدعوا، أما الفقير فلعسرته وأما الغنيّ فلشحته" واختلف في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ في هذه الآية، فقال الكلبي : ما بقي ذلك التكليف إلا ساعة من نهار ثم نسخ وقال مقاتل وابن حبان : بقي ذلك التكليف عشرة أيام ثم نسخ لما روي عن عليّ أنه قال إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي كان لي دينار فصرفته فكنت إذا ناجيته تصدّقت بدرهم. وفي رواية عنه فاشتريت به عشرة دراهم وكلما ناجيت النبيّ ﷺ قدمت بين يدي نجواي درهماً ثم نسخت فلم يعمل بها أحد.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٤١
وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنهم نهوا عن المناجاة حتى يتصدّقوا فلم يناج أحد إلا علي تصدّق بدينار، وعدم عمل غيره لا يقدح فيه لاحتمال أن يكون لم يجد عند المناجاة شيئاً أو أن لا يكون احتاج إلى المناجاة ثم نزلت الرخصة.
وعن ابن عمر رضى الله عنه كان لعليّ ثلاث لو كان لي واحدة منهنّ كانت أحب إليّ من حمر النعم تزويجه فاطمة وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى.
واختلف في الناسخ لذلك فقيل : هي منسوخة بالزكاة وأكثر المفسرين أنها منسوخة بالآية التي بعدها وهي ﴿أأشفقتم﴾ كما سيأتي وكان عليّ يقول : وخفف عن هذه الأمة ﴿فإن لم تجدوا﴾ أي : ما تقدّمونه فإن الله أي الذي له جميع صفات الكمال ﴿غفور رحيم﴾ أي : له صفتا الستر للمساوي والإكرام بإظهار المحاسن على الدوام فهو يعفو ويرحم تارة يقدّم العقاب للعاصي وتارة بالتوسعة للضيق بأن ينسخ ما يشق إلى ما يخف.
وقوله تعالى :﴿أأشفقتم﴾ أي : خفتم العيلة لما يعدكم به الشيطان من الفقر خوفاً كاد أن يفطر قلوبكم ﴿أن تقدّموا﴾ أي : بإعطاء الفقراء وهم إخوانكم ﴿بين يدي نجواكم﴾ أي : النبيّ ﷺ ﴿صدقات﴾ وجمع ؛ لأنه أكثر توبيخاً من حيث إنه يدل على أنّ النجوى تتكرّر استفهام معناه التقرير وهو الناسخ عند الأكثر كما مرّ.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام : بتسهيل الثانية بخلاف عن هشام، وأدخل بينهما الفاء قالون وأبو عمرو وهشام، والباقون بتحقيقهما ولا إدخال والأولى محققة بلا خلاف ﴿فإذ﴾ أي : فحين ﴿لم تفعلوا﴾ أي : ما أمرتكم به من الصدقة للنجوى بسبب هذا الإشفاق ﴿وتاب الله﴾ أي : الملك الأعلى ﴿عليكم﴾ أي : رجع بكم عنها بأن نسخها عنكم تخفيفاً عليكم ﴿فأقيموا﴾ أي :
٢٤٥


الصفحة التالية
Icon