ولما كان طلب الدنيا من النقائص بين أنه إذا كان من الله لم يكن كذلك، وأنه لا يكون فادحاً في الإخلاص فقال تعالى :﴿يبتغون﴾ أي : اخرجوا حال كونهم يطلبون على وجه الاجتهاد، وبين أنه لا يجب عليه سبحانه لأحد شيء بقوله تعالى :﴿فضلاً من الله﴾ أي : الملك الأعظم الذي لا كفء له، لأنه المختص بجميع صفات الكمال فيغنيهم بفضله عمن سواه ﴿ورضوانا﴾ بأن يوفقهم لما يرضيه عنهم، ولا يجعل رغبتهم في العوض منه فادحاً في الإخلاص فيوصلهم إلى دار كرامته وقرأ شعبة بضم الراء، والباقون بكسرها ﴿وينصرون﴾ أي : على سبيل التجديد والاستمرار ﴿الله﴾ أي : دين الملك الأعظم ﴿ورسوله﴾ الذي عظمته من عظمته بأنفسهم وأموالهم ليضمحل حزب الشيطان ﴿أولئك﴾ أي : العالو الرتبة في الأخلاق الفاضلة ﴿هم الصادقون﴾ أي : العريقون في هذا الوصف، لأنّ مهاجرتهم لما ذكر وتركهم لما وصف دل على كمال صدقهم فيما ادعوه من الإيمان بالله ورسوله ﷺ حيث نابدوا من عاداهما، ووالوا أولياءهما وإن بعدت دارهم وشط مزارهم
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٥٥
ثم اتبع ذكر المهاجرين بذكر الأنصار الذين كانوا في كل حال معه ﷺ كالميت بين يدي الغاسل مهما شاء فعل ومهما أراد منهم صاروا إليه بقوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٥٥
﴿والذين تبوّؤا﴾ أي : جعلوا بغاية جهدهم ﴿الدار﴾ أي : الكاملة في الدور التي جعلها الله تعالى في الأزل للهجرة، وهيأها للنصرة وجعلها محل إقامتهم. وفي قوله تعالى :﴿والإيمان﴾ أوجه :
٢٦١
أحدها : أنه ضمن تبوّؤا معنى لزموا فيصح عطف الإيمان عليه ؛ إذ الإيمان لا يتبوأ.
ثانيها : أنه منصوب بمقدر، أي : واعتقدوا، أو وألفوا، أو وأحبوا، أو وأخلصوا كقول القائل : علفتها تبناً وماء بارداً. وقول الآخر : ومقلداً سيفاً ورمحاً.
ثالثها : أنه يتجوّز في الإيمان فيجعل لاختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم، فكأنهم نزلوه وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة، وفيه خلاف مشهور.
رابعها : أن يكون الأصل دار الهجرة ودار الإيمان، فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه.
خامسها : أن يكون سمى المدينة به، لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان، قال : هذين الوجهين الزمخشري، وليس فيه إلا قيام أل مقام المضاف إليه وهو محل خلاف، وهو أن أل هل تقوم مقام الضمير المضاف إليه فالكوفيون يجوّزونه كقوله تعالى :﴿فإنّ الجنة هي المأوى﴾ (النازعات : ٤١)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٦١
أي : مأواه، والبصريون يمنعونه ويقولون الضمير محذوف، أي : المأوى له. وأما كونها عوضاً عن المضاف إليه، فقال ابن عادل : لا نعرف فيه خلافاً.
سادسها : أنه منصوب على المفعول معه، أي : مع الإيمان. قال وهب : سمعت مالكاً يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق فقال : إنّ المدينة تبوّئت بالإيمان والهجرة، وإنّ غيرها من القرى افتتحت بالسيف، ثم قرأ ﴿والذين تبوّؤا الدار والإيمان من قبلهم﴾ أي : وهم الأنصار ﴿يحبون﴾ أي : على سبيل التجديد والاستمرار ﴿من هاجر﴾ وزادهم محبة فيهم بقوله تعالى :﴿إليهم﴾ لأنّ القصد إلى الإنسان يوجب حقه عليه، لأنه لولا كمال محبته له ما خصه بالقصد إليه
٢٦٢
﴿ولا يجدون في صدورهم﴾ أي : التي هي مساكن قلوبهم فضلاً عن أن تنطق ألسنتهم ﴿حاجة﴾ قال الحسن : حسداً وحزازة وغيظاً ﴿مما أوتوا﴾ أي : آتى النبيّ المهاجرين من أموال بني النضير وغيرهم، وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة لأنّ هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة، فأطلق اسم اللازم على الملزوم على سبيل الكناية.
فعلى هذا يكون الضمير الأوّل للجائين بعد المهاجرين، وفي أوتوا للمهاجرين.