وقيل : إنّ الحاجة هنا على بابها من الاحتياج إلا أنها واقعة موقع المحتاج إليه، والمعنى : ولا يجدون طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره، والمحتاج إليه يسمى حاجة، تقول : خذ منه حاجته، وأعطاه من ماله حاجته قاله الزمخشري : والضميران على ما تقدم، وقال أبو البقاء : مس حاجة، أي : أنه حذف المضاف للعلم به، وعلى هذا فالضميران للذين تبوؤا الدار والإيمان. قال القرطبي : كان المهاجرون في دور الأنصار فلما غنم ﷺ أموال بني النضير دعا الأنصال وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم منازلهم وإشراكهم في الأموال، ثم قال ﷺ "إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم وبينهم وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دياركم" فقال سعد بن عبادة، وسعد ابن معاذ : بل تقسمه بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا، ونادت الأنصار رضينا وسلمنا يا رسول الله، فقال رسول الله ﷺ اللهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأعطى رسول الله ﷺ المهاجرين، ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة نفر محتاجين، أبا دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٦١
ولما أخبر تعالى عن تخليهم عن الرذائل أتبعه الأخبار بتحليهم بالفضائل فقال عز من قائل :﴿ويؤثرون على أنفسهم﴾ فيبذلون لغيرهم كائناً من كان ما في أيديهم، فإنّ الإيثار تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الأخروية، وذلك ينشأ عن قوّة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة، وذكر النفس دليل على أنهم في غاية النزاهة عن الرذائل فإنّ النفس إذا طهرت كان القلب أطهر وأكد ذلك بقوله تعالى :﴿ولو كان﴾ أي كونا هو في غاية المكنة ﴿بهم﴾ أي خاصة لا بالمؤثر ﴿خصاصة﴾ أي : فقر وحاجة إلى ما يؤثرون به.
روي عن أبي هريرة أن رجلاً بات به ضيف، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته : نومي الصبية وأطفىء السراج وقربي للضيف ما عندك، فنزلت هذه الآية. وعنه أيضاً قال :"جاء رجل إلى النبيّ ﷺ فقال : إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت : والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال رسول الله ﷺ من يضيف هذا الليلة رحمه الله فقام رجل من الأنصار فقال : أنا يا رسول الله فانطلق به إلى رحله فقال : لامرأته هل عندك شيء ؛ قالت : لا إلا قوت صبياني، قال : فعلليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج" وذكر نحو الحديث الأول.
وفي رواية فقام رجل من الأنصار يقال له : أبو طلحة فانطلق به إلى رحله. وذكر المهدوي
٢٦٣
أنها نزلت في ثابت بن قيس ورجل من الأنصار يقال له : أبو المتوكل، ولم يكن عنده إلا قوته.
وذكر القشيري قال : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله ﷺ رأس شاة، فقال : إنّ أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منا فبعثها إليهم، فلم يزل يبعث بها واحد إلى آخر حتى تناولها سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأول فنزلت الآية.
وذكر القرطبي عن أنس قال : أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة، وكان مجهوداً فوجه بها إلى جار له فتداولها سبعة أنفس في سبعة أبيات، ثم عادت إلى الأوّل فنزلت.
فإن قيل : قد صح في الخبر النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء أجيب : بأن محل النهي فيمن لا يوثق منه بالصبر على الفقر، وخاف أن يتعرّض للمسألة إذا فقد ما ينفقه، فأما الأنصار الذين أثنى الله تعالى عليهم بالإيثار على أنفسهم فكانوا كما قال تعالى :﴿والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس﴾ (البقرة : ١٧٧)
فكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك، والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار. كما روي "أنّ رجلاً جاء إلى النبيّ ﷺ بمثل البيضة من الذهب، فقال : هذه صدقة فرماه بها، وقال : يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به ثم يقعد فيتكفف الناس" والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس. ومن الأمثال : والجود بالنفس أعلى غاية الجود، وأفضل من الجود بالنفس الجود على حماية رسول الله ﷺ ففي الصحيح أن أبا طلحة ترس على رسول الله ﷺ يوم أحد، وكان النبيّ ﷺ يتطلع ليرى القوم فيقول له أبو طلحة : لا تشرف يا رسول الله لا يصيبونك نحري دون نحرك"، ووقى بيده رسول الله ﷺ فشلت. وقال حذيفة الدوري انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي فإذا برجل يقول : آه، آه. فأشار إليّ ابن عمي أن انطلق إليه فإذا هو هشام بن العاصي فقلت أسقيك فأشار أن نعم فسمع آخر يقول آه آه فأشار هشام أن انطلق عليه فجئت إليه، فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٦١


الصفحة التالية
Icon