وقال أبو يزيد البسطامي : ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ قدم إلينا حاجاً، فقال لي : يا أبا يزيد ما حد الزهد عندكم، فقلت : إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، فقال : هكذا كلاب بلخ فقلت : وما حد الزهد عندكم، فقال : إذا فقدنا شكرنا وإذا وجدنا آثرنا.
وسأل ذو النون ما حد الزهد قال : ثلاث : تفريق المجموع، وترك تطلب المفقود، والإيثار عند القوت. وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية من قرى الري، وبينهم أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم، فكسروا الرغفان وأطفؤوا السراج وجلسوا للطعام، فلما فرغوا فإذا الطعام بحاله لم يأكل أحد منهم شيئاً إيثاراً لصاحبه على نفسه ﴿ومن يوق شح نفسه﴾ أي : يجعل بينه وبين أخلاقه الذميمة المشار إليها بالنفس وقاية تحول بينه وبينها، فلا يكون مانعاً لما عنده حريصاً على ما عند غيره حسداً. قال ابن عمر الشح : أن تطمح عين الرجل فيما ليس له، قال ﷺ "اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم".
٢٦٤
وقال القرطبي : الشح والبخل سواء، وجعل بعض أهل اللغة الشح أشد من البخل. وفي الصحاح : الشح البخل مع حرص، والمراد بالشح في الآية الشح بالزكاة، وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضيافة وما شاكل ذلك وليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك، وإن أمسك عن نفسه، ومن وسع على نفسه ولم ينفق فيما ذكر من الزكاة والطاعات فلم يوق شح نفسه.
روى الأموي عن ابن مسعود : أنّ رجلاً أتاه فقال : إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال : وماذاك قال سمعت الله يقول : ومن يوق شح نفسه، وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يدي شيئاً، فقال ابن مسعود : ليس ذلك الذي ذكر الله تعالى، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلماً، ولكن ذلك البخل وبئس الشيء البخل، ففرق بين الشح والبخل. وقال طاوس : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يشح بما في أيدي الناس، يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام فلا يقنع، وقال بعضهم : ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، إنما الشح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له. وقال ابن جبير : الشح منع الزكاة، وادخار الحرام وقال ابن عيينة : الشح الظلم. وقال الليث : ترك الفرائض، وانتهاك المحارم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : من اتبع هواه ولم يقبل الإيمان، فذلك الشحيح وقال ابن زيد : من لم يأخذ شيئاً نهاه الله تعالى عنه، ولم يمنع شيئاً أمره الله تعالى بإعطائه فقد وقاه الله تعالى شح نفسه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٦١
وعن أنس أنّ النبيّ ﷺ قال :"برىء من الشح من أدى الزكاة، وأقرى الضيف، وأعطى في النائبة" وعنه أنّ النبي ﷺ "كان يدعو اللهم إني أعوذ بك من شح نفسي وإسرافها وسوأتها" وقال ابن الهياج الأسدي : رأيت رجلاً في الطواف يدعو اللهم قني شح نفسي لا يزيد على ذلك، فقلت له : فقال : إذا وقيت شح نفسي لم أسرق، ولم أزن، ولم أقتل فإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف. قال القرطبي : ونزل على هذا قوله ﷺ "اتقوا الظلم فإنّ الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإنّ الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماؤهم واستحلوا محارهم" وعن أبي هريرة أنّ النبيّ ﷺ قال :"لا يجتمع غبار في سبيل الله، ودخان جهنم في جوف عبد أبداً" وقال كسرى لأصحابه : أي شيء أضرّ بابن آدم ؟
قالوا : الفقر، فقال : الشح أضر من الفقر لأنّ الفقير إذا وجد شبع، والشحيح إذا وجد لم يشبع أبداً ﴿فأولئك﴾ أي : العالو المنزلة ﴿هم المفلحون﴾ أي : الكاملون في الفوز بكل مراد، قال القشيري : ومجرد القلب من الأعراض والأملاك صفة السادة والأكابر من أسرته الأخطار
ولما أثنى سبحانه وتعالى على المهاجرين والأنصار بما هم عليه وأهله أتبعهم ذكر التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين فقال تعالى :﴿والذين جاؤوا﴾ أي : من أي طائفة كانوا ﴿من بعدهم﴾ أي بعد المهاجرين والأنصار، وهم من آمن بعد انقطاع الهجرة بالفتح، وبعد إيمان الأنصار الذين
٢٦٥
أسلموا مع النبيّ ﷺ إلى يوم القيامة ﴿يقولون﴾ على سبيل التجديد والاستمرار تصديقاً لإيمانهم بدعائهم ﴿ربنا﴾ أي : أيها المحسن إلينا بإيجاد من مهد الدين قبلنا ﴿اغفر لنا﴾ أي : أوقع ستر النقائص آثارها وأعيانها ﴿ولأخواننا﴾ أي : في الدين فإنهم أعظم أخوة، وبينوا العلة بقولهم ﴿الذين سبقونا بالإيمان﴾ قال ابن أبي ليلى الناس على ثلاثة منازل : المهاجرين، والذين تبوؤا الدار والإيمان، والذي جاؤوا من بعدهم فاجتهد أن لا تخرج من هذه المنازل. وقال بعضهم : كن مهاجراً، فإن قلت : لا أجد فكن أنصارياً، فإن لم تجد فاعمل بأعمالهم، فإن لم تستطع فأحبهم واستغفر لهم كما أمر الله تعالى.


الصفحة التالية
Icon