سبيلها ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله ﷺ. وروي أنّ رسول الله ﷺ أمن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة : هي أحدهم فاستحضر رسول الله ﷺ حاطباً، وقال له : هل تعرف هذا الكتاب، قال : نعم، قال : فما حملك عليه، فقال : يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكني كنت أمرأ ملصقاً في قريش، وروى عزيزاً فيهم أي : غريباً ولم أكن من أنفسها، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري، فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً، وقد علمت أنّ الله تعالى ينزل عليهم بأسه، وإنّ كتابي لا يغني عنهم شيئاً فصدّقه وقبل عذره، فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال :"وما يدريك يا عمر لعلّ الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ففاضت عينا عمر"، وقال : الله ورسوله أعلم. وإضافة العدوّ إلى الله تعالى تغليظاً في خروجهم، وهذه السورة أصل في النهي عن موالاة الكفار، وتقدّم نظيره في قوله تعالى :﴿لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء﴾ (آل عمران : ٢٨)
وقوله تعالى :﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم﴾ (آل عمران : ١١٨)
روي أنّ حاطباً لما سمع ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ غشي عليه من الفرح بخطاب الإيمان.
ثم إنه تعالى استأنف بيان هذا الاتخاذ بقوله تعالى مشيراً إلى غاية الإسراع والمبادرة إلى ذلك بالتعبير بقوله تعالى :﴿تلقون﴾ أي : جميع ما هو في حوزتكم مما لا تطمعون فيه إلقاء الشيء الثقيل من علو ﴿إليهم﴾ على بعدهم منكم حساً، ومعنى ﴿بالمودّة﴾ أي : بسببها قال القرطبي : تلقون إليهم بالمودّة، يعني : بالظاهر لأنّ قلب حاطب كان سليماً بدليل أنّ النبيّ ﷺ قال :"أمّا صاحبكم فقد صدق" هذا نص في إسلامه وسلامة فؤاده وخلوص اعتقاده. وقرأ حمزة بضم الهاء، والباقون بكسرها. وقوله تعالى :﴿وقد كفروا﴾ أي : غطوا جميع مالكم من الأدلة ﴿بما﴾ أي : بسبب ما ﴿جاءكم من الحق﴾ أي : الأمر الثابت الكامل في الثبات الذي لا شيء أعظم ثباتاً منه فيه أوجه :
أحدها : الاستئناف.
ثانيها : الحال من فاعل تتخذوا.
ثالثها : الحال من فاعل تلقون، أي : لا تتولوهم ولا توادّوهم، وهذه حالهم. وقوله تعالى :﴿يخرجون الرسول﴾ يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون تفسير الكفر هم فلا محل له على هذين، وأن يكون حالاً من فاعل كفروا. وقوله تعالى :﴿وآياكم﴾ عطف على الرسول وقدم عليهم تشريفاً له ﷺ وقوله تعالى :﴿أن تؤمنوا﴾ أي : توقعوا حقيقة الإيمان مع التجدّد والاستمرار ﴿بالله﴾ أي : الذي اختص بجميع صفات الكمال ﴿ربكم﴾ أي : المحسن إليكم تعليل ليخرجون، والمعنى : يخرجون الرسول ويخرجونكم من مكة لأن تؤمنوا بالله، أي : لأجل إيمانكم بالله.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٧٦
قال ابن عباس : وكان حاطب ممن أخرج مع النبي ﷺ وفي ذلك تغليب المخاطب
٢٧٧
والإلتفات من التكلم إلى الغيبة للدلالة على ما يوجب الإيمان ﴿إن كنتم خرجتم﴾ أي : عن أوطانكم، وقوله تعالى :﴿جهاداً في سبيلي﴾ أي : بسبب إرادتكم تسهيل طريقي التي شرعتها لعبادي أن يسلكوها ﴿وابتغاء مرضاتي﴾ أي : ولأجل تطلبكم أعظم الرغبة لرضاي علة للخروج، وعمدة للتعليق، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه لا تتخذوا. وقرأ الكسائي بالإمالة محضة، والباقون بالفتح. وقوله تعالى :﴿تسرون﴾ أي : توجدون جميع ما يدل على مناصحتكم إياهم والتودّد ﴿إليهم بالمودّة﴾ أي : بسببها بدل من تلقون قاله ابن عطية. قال ابن عادل : ويشبه أن يكون بدل اشتمال لأنّ القاء المودّة يكون سرّاً وجهراً، أو استئناف واقتصر عليه الزمخشري ﴿وأنا﴾ أي : والحال أني ﴿أعلم﴾ أي : من كل أحد حتى من نفس الفاعل، وقرأ نافع بمدّ الألف بعد النون ﴿بما أخفيتم وما أعلنتم﴾ قال ابن عباس : بما أخفيتم قي صدوركم وما أظهرتم بألسنتكم، أي : فأي فائدة لأسراركم إن كنتم تعلمون أني عالم به، وإن كنتم تتوهمون أني لا أعلمه فهي القاصمة ﴿ومن يفعله﴾ أي : يوجد أسرار خبر إليهم ويكاتبهم ﴿منكم﴾ أي : في وقت من الأوقات ﴿فقد ضلّ﴾ أي : عمي ومال وأخطأ ﴿سواء السبيل﴾ أي : قويم الطريق الواسع الموصل إلى القصد قويمه وعدله. قال القرطبي : هذا كله معاتبة لحاطب، وهو يدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله ﷺ وصدق إيمانه فإنّ المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيب، كما قال القائل :
*إذا ذهب العتاب فليس ودّ ** ويبقى الودّ ما بقي العتاب*
وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار الدال عند الضاد، والباقون بالإدغام.


الصفحة التالية
Icon