﴿إن يثقفوكم﴾ أي : يظفروا بكم في وقت من الأوقات ومكان من الأماكن ﴿يكونوا لكم أعداء﴾ أي : ولا ينفعكم القاء المودّة إليهم ﴿ويبسطون إليكم﴾ أي : خاصة، وإن كان هناك في ذلك الوقت من غير من قتل أعز الناس عليهم ﴿أيديهم﴾ أي : بالضرب أن استطاعوا ﴿وألسنتهم﴾ أي : بالشتم مضمومة إلى فعل أيديهم فعل من ضاق صدره بما تجرّع من آخر من الغصص حتى أوجب له غاية السفه ﴿بالسوء﴾ أي : بكل ما من شأنه أن يسوء ﴿وودّوا﴾ أي : تمنوا قبل هذا ﴿لو تكفرون﴾ لأنّ مصيبة الدين أعظم فهو إليها أسرع، لأنّ دأب العدوّ القصد إلى أعظم ضرر يراه لعدوّه، وعبر بما يفهم التمني الذي يكون في المحالات ليكون المعنى أنهم أحبوا ذلك غاية الحب وتمنوه، وفيه بشرى بأنه من قبيل المحال، وقدم الأوّل لأنه أبين في العداوة وإن كان الثاني أنكى.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٧٦
ولما كانت عداوتهم معروفة، وإنما غطاها محبة القرابات لأنّ الحب للشيء يعمي ويصم فخطأ رأيهم في موالاتهم بما أعلمهم به من حالهم، فقال تعالى مستأنفاً إعلاماً بأنها خطأ على كل حال.
﴿لن تنفعكم﴾ بوجه من الوجوه ﴿أرحامكم﴾ أي : قراباتكم الحاملة لكم على رحمتكم والعطف عليهم ﴿ولا أولادكم﴾ أي : الذين هم أخص أرحامكم إن واليتم أعداء الله تعالى لأجلهم، فينبغي أن لا تعدّوا قربهم منكم بوجه أصلاً، ثم علل ذلك وبينه بقوله تعالى :﴿يوم القيامة﴾ أي : القيام الأعظم ﴿يفصل﴾ أي : يوقع الفصل، وهو الفرقة العظيمة بانقطاع جميع الأسباب. وقرأ عاصم بفتح الياء وإسكان الفاء وكسر الصاد مخففة، وقرأ ابن عامر بضم الياء وفتح
٢٧٨
الفاء وفتح الصاد مشددة، وحمزة والكسائي كذلك إلا أنهما يكسران الصاد، والباقون بضم الياء وسكون الفاء ﴿بينكم﴾ أي : أيها الناس فيدخل من يشاء من أهل طاعته الجنة، ومن يشاء من أهل معصيته النار فلا ينفع أحد أحداً منكم بشيء من الأشياء، إلا إن كان قد أتى الله تعالى بقلب سليم فيأذّن الله تعالى في إكرامه بذلك ﴿والله﴾ أي : الذي له الإحاطة التامّة ﴿بما تعملون﴾ أي : من كل عمل في كل وقت ﴿بصير﴾ فيجازيكم عليه في الدنيا والآخرة.
ولما نهى تعالى عن موالاة الكفار ذكر قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأنّ من سيرته التبري من الكفار بقوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٧٦
﴿قد كانت﴾ أي : وجدت وجوداً تامّاً، وكأنّ تأنيث الفعل إشارة إلى الرضا بها، ولو كانت على أدنى الوجوه ﴿لكم﴾ أي : أيها المؤمنون ﴿أسوة﴾ أي موضع اقتداء وتأسية في إبراهيم وطريقة مرضية. وقرأ أسوة في الموضعين عاصم بضم الهمزة، والباقون بكسرها ﴿حسنة﴾ أي : يرغب فيها ﴿في إبراهيم﴾ أي : في قول أبي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ﴿والذين معه﴾ أي : ممن كان قبله من الأنبياء. قاله القشيري : وممن آمن به في زمانه كابن أخته لوط عليه الصلاة والسلام، وهم قدوة أهل الجهاد والهجرة، وقيل : المراد بمن معه أصحابه من المؤمنين. وقرأ هشام بفتح الهاء وألف بعدها، والباقون بكسر الهاء وبعدها ياء أي : فاقتدوا به إلا في استغفاره لأبيه.
قال القرطبي : الآية نص في الأمر بالاقتداء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام في فعله، وذلك يدل على أن شرع من قبلنا شرع لنا فيما أخبر الله ورسوله، وقيل : إنه شرع لنا إذا ورد في شرعنا ما يقرره، وقيل : ليس بشرع لنا مطلقاً وهو الأصح عندنا ﴿إذ﴾ أي : حين ﴿قالوا﴾ وقد كان من آمن به أقل منكم وأضعف ﴿لقومهم﴾ أي : الكفرة وقد كانوا أكثر من عدوّكم وأقوى، وكان لهم فيهم أرحام وقرابات، ولهم فيهم رجاء بالقيام والمحاولات ﴿أنا براء﴾ أي : متبرؤن تبرئة عظيمة ﴿منكم﴾ وإن كنتم أقرب الناس إلينا، ولا ناصر لنا منهم غيركم ﴿ومما تعبدون﴾ أي : توجدون عبادته في وقت من الأوقات ﴿من دون الله﴾ أي : الملك الأعظم ﴿كفرنا بكم﴾ أي : جحدناكم وأنكرنا دينكم ﴿وبدا﴾ أي : ظهر ظهوراً عظيماً ﴿بيننا وبينكم العداوة﴾ وهي المباينة في الأفعال بأن يعدو كل أحد على الآخر ﴿والبغضاء﴾ وهي المباينة بالقلوب للبغض العظيم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٧٩
ولما كان ذلك قد يكون سريع الزوال قالوا :﴿أبداً﴾ أي : على الدوام. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو في الوصل بإبدال الهمزة الثانية المفتوحة بعد المضمومة واواً خالصة، والباقون بتحقيقها وهم على مراتبهم في المدّ، وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفاً مع المدّ والتوسط والقصر، ولهما أيضاً التسهيل مع المدّ والقصر والروم معهما. ولما كان ذلك مؤيساً من صلاح الحال، وقد
٢٧٩
يكون لحظ النفس بينوا غايته بقولهم :﴿حتى تؤمنوا بالله﴾ أي : الملك الذي له الكمال كله ﴿وحده﴾ أي : تكونوا مكذبين بكل ما يعبد من دون الله تعالى، وقوله تعالى :﴿إلا قول إبراهيم لأبيه﴾ فيه أوجه :


الصفحة التالية
Icon