ثم بين سبحانه تلك التجارة بقوله تعالى :﴿تؤمنون﴾ أي : تدومون على الإيمان ﴿بالله﴾ أي : الذي له جميع صفات الكمال، وعلى هذا فلا ينافي ذلك قوله تعالى :﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ وقيل : المراد من هذه الآية المنافقون وهم الذين آمنوا في الظاهر، وقيل : أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فإنهم آمنوا بالكتب المتقدمة ﴿ورسوله﴾ الذي تصديقه آية الإذعان للعبودية ﴿وتجاهدون﴾ بياناً لصحة إيمانكم على سبيل التجديد والاستمرار ﴿في سبيل الله﴾ أي : الملك الأعظم الذي لا أمر لغيره ﴿بأموالكم وأنفسكم﴾ وقدم الأموال لعزتها في ذلك الزمان، ولأنها قوام الأنفس فمن بذل ماله كله لم يبخل بنفسه، لأن المال قوامها. وقال القرطبي : ذكر الأموال أولاً لأنها التي يبدأ بها في الإنفاق ﴿ذلكم﴾ أي : الأمر العظيم من الإيمان وتصديقه بالجهاد ﴿خير لكم﴾ أي : من أموالكم وأنفسكم ﴿إن كنتم تعلمون﴾ أي : إن كان يمكن أن يتجدد لكم علم في وقت فأنتم تعلمون أن ذلك خير لكم، فإذا علمتم أنه خير أقبلتم عليه فكان لكم به أمر عظيم، وإن كانت قلوبكم قد طمست طمساً لا رجاء لصلاحه فصلوا على أنفسكم صلاة الموت.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٩٦
وقوله تعالى :﴿يغفر لكم﴾ فيه أوجه :
أحدها : أنه مجزوم على جواب الخبر بمعنى الأمر، أي : آمنوا وجاهدوا.
والثاني : أنه مجزوم في جواب الاستفهام، كما قاله الفراء.
والثالث : أنه مجزوم بشرط مقدر، أي : إن تؤمنوا يغفر لكم. قال القرطبي : وأدغم بعضهم فقرأ يغفر لكم، والأحسن ترك الإدغام فإن الراء متكرر قوي فلا يحسن الإدغام في اللام، لأن الأقوى لا يدغم في الأضعف ا. ه. وتقدم في آخر سورة البقرة مثل ذلك للزمخشري والبيضاوي ورد عليهما ﴿ذنوبكم﴾ أي : يمحو أعيانها وآثارها كلها ﴿ويدخلكم﴾ أي : بعد التزكية بالمغفرة رحمة لكم ﴿جنات﴾ أي : بساتين ﴿تجري من تحتها﴾ أي : من تحت أشجارها وغرفها وكل منتزه فيها ﴿الأنهار﴾ فهي لا تزال غضة زهراء لم يحتج هذا الأسلوب إلى ذكر الخلود لإغناء ما بعده عنه، ودل على الكثرة المفرطة في الدور بقوله في صيغة منتهى الجموع ﴿ومساكن طيبة﴾ روى
٢٩٧
الحسن قال :"سألت عمران بن حصين، وأبا هريرة عن قوله تعالى :﴿ومساكن طيبة﴾ فقالا : على الخبير سقطت سألنا رسول الله ﷺ عنها فقال :"قصر من لؤلؤة في الجنة في ذلك القصر سبعون داراً من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتاً من زبرجدة خضراء، في كل بيت سبعون سريراً، في كل سرير سبعون فراشاً من كل لون على كل فراش سبعون امرأة من الحور العين، في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام، في كل بيت سبعون وصيفاً ووصيفة فيعطي الله تعالى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله" ﴿في جنات عدن﴾ أي : بساتين هي أهل للإقامة بها لا يحتاج في إصلاحها إلى شيء خارج يحتاج في تحصيله إلى الخروج عنها له، قال حمزة الكرماني في كتابه "جوامع التفسير" : هي أي جنات عدن قصبة الجنان ومدينة الجنة أقربها إلى العرش ﴿ذلك﴾ أي : الأمر العظيم جداً ﴿الفوز العظيم﴾ أي : السعادة الدائمة الكبيرة، وأصل الفوز الظفر بالمطلوب.
ولما ذكر تعالى ما أنعم به عليهم في الآخرة بشرهم بنعمته في الدنيا.
بقوله تعالى :﴿وأخرى تحبونها﴾ أي : ولكم إلى هذه النعمة المذكورة نعمة أخرى عاجلة محبوبة، وفي تحبونها تعريض بأنهم يؤثرون العاجل على الآجل. وقوله تعالى :﴿نصر من الله﴾ أي : الذي أحاطت عظمته بكل شيء خبر مبتدأ مضمر، أي : تلك النعمة أو الخصلة الأخرى نصر من الله ﴿وفتح قريب﴾ أي : غنيمة في عاجل الدنيا قيل : فتح مكة قال الكلبي : هو النصر على قريش، وقال ابن عباس : يريد فتح فارس والروم. وقوله تعالى :﴿وبشر المؤمنين﴾ عطف على محذوف مثل ﴿قل يا أيها الذين آمنوا وبشر﴾، أو على يؤمنون فإنه في معنى الأمر كأنه قال آمنوا وجاهدوا أيها المؤمنون، وبشرهم يا أشرف الرسل بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٩٦
يا أيها الذين آمنوا﴾
أي : أقروا بذلك ﴿كونوا﴾ أي : بغاية جهدكم ﴿أنصاراً لله﴾ أي : لدينه، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو أنصاراً بالتنوين وجر اللام من الاسم الجليل وترقيقها، والباقون بغير تنوين وتفخيم اللام. ﴿كما﴾ أي : كونوا لأجل أني ندبتكم أنا بقولي من غير واسطة ولذذتكم بخطابي مثل ما كان الحواريون أنصار الله حين ﴿قال عيسى بن مريم﴾ حين أرسلته إلى بني إسرائيل ناسخاً لشريعة موسى عليه السلام ﴿للحواريين﴾ أي : خلص أصحابه وخاصته منهم ﴿من أنصاري إلى الله﴾ أي : المحيط بكل شيء أي : انصروا دين الله تعالى مثل نصرة الحواريين لما قال لهم عيسى عليه السلام من أنصاري إلى الله، أي : من ينصرني مع الله تعالى :﴿قال الحواريون﴾ معلمين إنهم جادون في ذلك جداً لا مزيد عليه لعلمهم أن أجابته إجابة الله تعالى، لأنه لا ينطق عن الهوى فليس كلامه إلا عن الله تعالى :﴿نحن﴾ أي : بأجمعنا وكانوا اثني عشر رجلاً، وهم أول من آمن بعيسى ﴿أنصار الله﴾ أي : الملك الأعلى القادر على تمام نصرنا، ولو كان عدونا كل أهل الأرض.
ولما كان التقدير ثم دعوا كل من خالفهم من بني اسرائيل وبارزهم تسبب عنهم قوله تعالى :﴿فآمنت﴾ أي : به ﴿طائفة﴾ أي : ناس منهم أهل الاستدارة لما لهم من الكثرة ﴿من بني اسرائيل﴾
٢٩٨
قومه ﴿وكفرت طائفة﴾ أي : منهم، وأصل الطائفة : القطعة من الشيء، وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق :
فرقة قالوا : كان الله فارتفع.
وفرقة قالوا : كان ابن الله فرفعه إليه.
وفرقة قالوا : كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه، وهم المؤمنون.
واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس فاقتتلوا، وظهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المؤمنة حتى بعث الله تعالى محمداً ﷺ فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى :﴿فأيدنا﴾ أي : قوينا بعد رفع عيسى عليه السلام ﴿الذين آمنوا﴾ أي : أقروا بالإيمان المخلص ﴿على عدوهم﴾ أي : الذين عادوهم لأجل إيمانهم ﴿فأصبحوا﴾ أي : صاروا بعد ما كانوا فيه من الذل ﴿ظاهرين﴾ أي : عالين غالبين قاهرين في أقوالهم وأفعالهم لا يخافون أحداً ولا يستخفون منه، وروى المغيرة عن إبراهيم قال : فأصبحت حجة من آمن بعيسى عليه السلام ظاهرة بتصديق محمد ﷺ أن عيسى عليه السلام كلمة الله وعبده ورسوله. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله ﷺ "من قرأ سورة الصف كان عيسى مصلياً عليه مستغفراً له ما دام في الدنيا وهو يوم القيامة رفيقه" حديث موضوع.
٢٩٩
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٩٦


الصفحة التالية
Icon