هو} أي : وحده ﴿الذي بعث في الأميين﴾ أي : العرب لأن أكثرهم لا يكتبون ولا يقرؤون، والأمي : من لا يقرأ ولا يكتب ﴿رسولاً منهم ﴾ أي : من جملتهم أمياً مثلهم، وهو محمد ﷺ وما من حي من العرب إلا وله ﷺ فيهم قرابة، وقد ولدوه. قال ابن إسحاق : إلا بني تغلب فإن الله تعالى طهر نبيه ﷺ منهم فلم يجعل لهم عليه ولادة، وكان أمياً لم يقرأ من كتاب ولم يتعلم ﷺ علمه الله ما لم يكن يعلم من غير تطلب، فكانت آثار البشرية عنه مندرسة وأنوار الحقائق علية لائحة، وذلك لئلا يتوهم الافتقار إلى الاستعانة بالكتب لأن مشاكلته لحال من بعث فيهم أقرب إلى مساواتهم له لو أمكنهم فيكون معنى عدم إمكان المساواة أدل على الإعجاز، وبعثه إلى العرب لا ينفي بعثه إلى غيرهم لاسيما مع ما ورد فيه من صرائح الدلائل القطعية، فذكر موضع البعث وابتداءه فتكون الغاية مطلقة تقديرها إلى عامة الخلق ﴿يتلو﴾ أي : يقرأ قراءة يتبع بعضها بعضاً على وجه الكثرة والعلو والرفعة ﴿عليهم﴾ مع كونه أمياً مثلهم ﴿آيات﴾ أي : يأتيهم بها على سبيل التجدد والمواصلة، وهي القرآن الذي أعجز الجن والإنس أن يأتوا بسورة من مثله ﴿ويزكيهم﴾ أي : يطهرهم من الشرك والأخلاق الرذيلة، والعقائد الزائغة فكانت تزكيته لهم مدة حياته بنظره الشريف إليهم، وتعليمه لهم وتلاوته عليهم، فربما نظر الإنسان نظرة محبة فزكاه الله تعالى بها بحسب القابليات والأمور التي قضى الله تعالى أن تكون مهيآت فكان له أعشق فكان لأتباعه ألزم فكان في كتاب الله وسنته أرسخ ﴿ويعلمهم الكتاب ﴾ أي : القرآن المنزل عليه الجامع لكل خير ديني ودنيوي في الأولى والأخرى ﴿والحكمة﴾ هي غاية الحكم للكتاب في قوة فهمه والعمل به فهي العمل المزين بالعلم المتقن به، وقال الحسن : الكتاب : القرآن، والحكمة : السنة. وقال ابن عباس : الكتاب الخط بالقلم، والحكمة : السنة، لأن الخط إنما فشا في العرب بالشرع لما أمروا بالتقييد بالخط. وقال مالك بن أنس : الحكمة : الفقه في الدين ﴿وإن﴾ أي : والحال أنهم ﴿كانوا﴾ أي : كوناً هو كالجبلة لهم ﴿من قبل﴾ أي : قبل إرساله إليهم ﴿لفي ضلال﴾ أي : بعد عن المقصود ﴿مبين﴾ أي : ظاهر في نفسه مناد لغيره أنه ضلال باعتقادهم الأباطيل الظاهرة، وظنهم أنهم على شيء، وعموم الجهل لهم ورضاهم به واختبارهم له.
وقوله تعالى :﴿وآخرين منهم﴾ فيه وجهان : أحدهما : أنه مجرور عطفاً على الأميين، أي : وبعث في الآخرين من الأميين، أي : الموجودين والآتين منهم بعدهم ﴿لما﴾ أي : لم ﴿يلحقوا بهم﴾ في السابقة والفصل والثاني : أنه منصوب عطفاً على الضمير المنصوب في يعلمهم، أي : ويعلم آخرين لما يلحقوا بهم وسيلحقون، وكل من تعلم شريعة محمد ﷺ إلى آخر
٣٠١
الزمان فرسول الله ﷺ معلمه بالقوة، لأنه أصل ذلك الخير العظيم والفضل الجسيم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٠٠
تنبيه : الذين لم يلحقوا بهم هم الذين لم يكونوا في زمنهم وسيجيئون بعدهم. قال عمر وسعيد بن جبير : هم العجم، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال :"كنا جلوساً عند النبي ﷺ إذ نزلت عليه سورة الجمعة فلما قرأ :﴿وآخرين منهم لما يلحقوا بهم﴾ قال رجل : من هؤلاء يا رسول الله ؟
فلم يراجعه النبي ﷺ حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثاً، قال : وفينا سلمان الفارسي، قال :"فوضع النبي صلى الله علية وسلم يده على سلمان ثم قال :"لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجل من هؤلاء" وفي رواية "لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجال من فارس" أو قال : من أبناء فارس حتى يتناوله. وقال عكرمة : هم التابعون، وقال مجاهد : هم الناس كلهم، يعني : من بعد العرب الذين بعث فيهم محمد ﷺ وقال ابن زيد، ومقاتل بن حبان : هم من دخل في الإسلام بعد النبي ﷺ إلى يوم القيامة.


الصفحة التالية
Icon