٣٠٣
بذلك خصوصية مبتدأة ﴿من دون﴾ أي : أدنى رتبة من رتب ﴿الناس﴾ فلم تنفذ الولاية، وتلك الرتبة في الدنيا إلى أحد منهم غيركم بل خصكم بذلك عن كل من فيه أهلية الحركة لاسيما الأميين ﴿فتمنوا الموت﴾ وأخبروا عن أنفسكم بذلك للنقلة من دار البلاء إلى محل الكرامة والآلاء ﴿إن كنتم﴾ أي : كوناً راسخاً ﴿صادقين﴾ أي : غريقين عند أنفسكم في الصدق، فإن من علامات المحبة الاشتياق إلى المحبوب، ومن المقطوع به أن من كان في كدر وكان له ولي قد وعده عند الوصول إليه الراحة التي لا يشوبها ضرر تمنى النقلة إلى وليه. روي أنه ﷺ قال لهم "والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه فلم يقلها منهم أحد علماً منهم بصدقه ﷺ فلم يقولوا ولم يؤمنوا عناداً منهم".
ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم لا يتمنونه في المستقبل أيضاً بقوله تعالى :
﴿ولا يتمنونه﴾ أي : في المستقبل ﴿أبداً بما قدمت أيديهم﴾ أي : بسبب ما قدموا من الكفر والمعاصي التي أحاطت به فلم تدع لهم حظاً في الآخرة.
تنبيه : قال تعالى هنا :﴿ولا يتمنونه﴾ وفي البقرة ﴿ولن يتمنوه﴾ (البقرة : ٩٥)
قال الزمخشري : لا فرق بين لا ولن في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل، إلا أن في لن تأكيداً وتشديداً ليس في لا فأتى مرة بلفظ التأكيد ﴿ولن يتمنوه﴾ ومرة بغير لفظه ﴿ولا يتمنونه﴾ قال أبو حيان : وهذا رجوع منه عن مذهبه وهو أن لن تقتضي النفي على التأبيد إلى مذهب الجماعة، وهي أنها لا تقتضيه. قال بعضهم : وليس فيه رجوع، غاية ما فيه أنه سكت عنه، وتشريكه بين لا و لن في نفي المستقبل لا ينفي اختصاص لن بمعنى آخر ا. ه. ودعواهم الولاية إلى التوسل إلى الجنة لا يلزم منها الاختصاص بالنعم بدليل أن الدنيا ليست خالصة للأولياء المحقق لهم الولاية بل البر والفاجر مشتركون فيها. ﴿والله﴾ أي : الذي له الإحاطة بكل شيء قدرة وعلماً ﴿عليم﴾ بالغ العلم محيط بهم هكذا كان الأصل ولكنه تعالى قال :﴿بالظالمين﴾ تعميماً وتعليقاً بالوصف لا بالذات، فالمعنى أنه عالم بأصحاب هذا الوصف الراسخين فيه منهم ومن غيرهم، فهو مجازيهم على ظلمهم.
﴿
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٠٣
قل﴾
أي : لهؤلاء يا أشرف الرسل ﴿إن الموت الذي تفرون منه﴾ بالكف عن التمني ﴿فإنه ملاقيكم﴾ أي : لا تفوتونه لاحق بكم.
تنبيه : في هذه الفاء وجهان : أحدهما : إنها داخلة لما تضمنه الاسم من معنى الشرط، وحكم الموصوف بالموصول حكم الموصول في ذلك. قال الزجاج : لا يقال : إن زيداً فمنطلق، وههنا قال :﴿فإنه ملاقيكم﴾ لما في معنى الذي من الشرط أو الجزاء، أي : إن فررتم منه فإنه ملاقيكم، ويكون مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه. الثاني : إنها مزيدة محضة لا للتضمن المذكور.
ولما كان الحبس في البرزخ أمراً لا بد منه مهولاً نبه عليه وعلى طوله بأداة التراخي فقال تعالى :﴿ثم تردون إلى عالم الغيب﴾ أي : السر ﴿والشهادة﴾ أي : العلانية، أو كل ما غاب عن الخلق، وكل ما شوهد ﴿فينبئكم﴾ أي : يخبركم إخباراً عظيماً مستقصى مستوفى ﴿بما كنتم﴾ أي :
٣٠٤
بما هو لكم كالجبلة ﴿تعملون﴾ أي : بكل جزء منه بما برز إلى الخارج، وبما كان في جبلاتكم ولو بقيتم لفعلتموه ليجازيكم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٠٣
﴿يا أيها الذين أمنوا﴾ أي : أقروا بألسنتهم بالإيمان ﴿إذا نودي﴾ أي : من أي مناد كان من أهل النداء ﴿للصلاة﴾ أي : صلاة الجمعة ﴿من﴾ أي : في ﴿يوم الجمعة﴾ كقوله تعالى :﴿أروني ماذا خلقوا من الأرض﴾ (فاطر : ٤٠)
أي : في الأرض، والمراد بهذا النداء الأذان عند قعود الإمام على المنبر للخطبة، لأنه لم يكن في عهد رسول الله ﷺ نداء سواه، كان إذا جلس رسول الله ﷺ على المنبر أذن بلال، وعن السائب بن يزيد قال : كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثاني على الدور، زاد في رواية فثبت الأمر على ذلك.
وعن أبي داود قال : كان يؤذن بين يدي رسول الله ﷺ إذا جلس يوم الجمعة على المنبر على باب المسجد، روي أنه كان لرسول الله ﷺ مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد، فإذا نزل أقام الصلاة، ثم كان أبو بكر وعمر وعلي بالكوفة على ذلك حتى إذا كان عثمان، وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد أذاناً آخر، فأمر بالتأذين الأول على داره التي تسمى زوراء، فإذا سمعوا أقبلوا حتى إذا جلس عثمان على المنبر أذن الأذان الثاني الذي كان على زمن النبي ﷺ فإذا نزل أقام الصلاة، فلم يعب ذلك عليه لقوله ﷺ "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي".


الصفحة التالية
Icon