وروى أبو هريرة أنّ النبيّ ﷺ قال :"آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان" وروى عبد الله بن عمر أنّ النبيّ ﷺ قال :"أربع من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلة منهنّ كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" وروي عن الحسن أنه ذكر هذا الحديث فقال : إنّ بني يعقوب حدثوا فكذبوا، ووعدوا فأخلفوا، وائتمنوا فخانوا، إنما هذا القول من النبيّ ﷺ على سبيل الإنذار للمسلمين، والتحذير لهم أن يعتادوا هذه الخصال شفقة أن تفضي بهم إلى النفاق، وليس المعنى أنّ من ندرت منه هذه الخصال من غير اختيار واعتياد أنه منافق وقال عليه الصلاة والسلام :"المؤمن إذا حدث صدق، وإذا وعد نجز، وإذا ائتمن وفى" والمعنى المؤمن الكامل ﴿فصدّوا﴾ أي : فسبب لهم اتخاذهم هذا أن أعرضوا بأنفسهم مع سوء البواطن وحرارة ما في الصدور، وحملوا
٣١٥
غيرهم على الإعراض ﴿عن سبيل الله﴾ أي : عن طريق الملك الأعظم الذي شرعه لعباده ليصلوا به إلى محل رضوانه، ووصلوا إلى ذلك بخداعهم ومكرهم بجراءتهم على الأيمان الخائنة ﴿إنهم ساء ما كانوا﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿يعملون﴾ أي : يجدّدون عمله مستمرّين عليه بما هو كالجبلة من جراءتهم على الله ورسوله ﷺ وخلص عباده بالأيمان الخائنة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣١٣
ولما كانت المعاصي تعمي القلوب فكيف بأعظمها علله بقوله تعالى :
﴿ذلك﴾ أي : سوء عملهم ﴿بأنهم آمنوا ثم كفروا﴾.
فإن قيل : إنّ المنافقين لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم، فما معنى قوله تعالى :﴿آمنوا ثم كفروا﴾ ؟
أجيب : بثلاثة أوجه :
أحدها : آمنوا، أي : نطقوا بكلمة الشهادة، وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام، ثم كفروا أي : ثم ظهر كفرهم بعد ذلك، وتبين بما اطلع عليه من قولهم إن كان ما يقول محمد حقاً، فنحن حمير، وقولهم في غزوة تبوك : أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات، ونحوه قوله :﴿يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم﴾ (التوبة : ٧٤)
أي : وظهر كفرهم بعد أن أسلموا، ونحوه ﴿لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم﴾ (التوبة : ٦٦)
والثاني : آمنوا أي : نطقوا بالإيمان عند المؤمنين، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام بقوله تعالى :﴿وإذا لقوا الذين آمنوا﴾ إلى قوله ﴿إنما نحن مستهزؤن﴾ (البقرة : ١٤)
وهذا إعلام من الله تعالى بأنّ المنافقين كفار.
الثالث : أن يراد أنّ ذلك في قوم آمنوا ثم ارتدّوا ﴿فطبع﴾ أي : فحصل الطبع وهو الختم مع أنه معلوم أنه لا يقدر على ذلك غيره سبحانه ﴿على قلوبهم﴾ أي : لأجل اجترائهم على ما هو أكبر الكبائر على وجه النفاق ﴿فهم﴾ أي : فتسبب عن ذلك أنهم ﴿لا يفقهون﴾ أي : لا يقع لهم فقه في شيء من الأشياء، فهم لا يميزون صواباً من خطأ، ولا حقاً من باطل.
﴿وإذا رأيتهم﴾ أي : أيها الرسول على ما لك من الفطنة ونفوذ الفراسة، أو أيها الرائي كائناً من كان بعين البصر ﴿تعجبك أجسامهم﴾ لضخامتها وصباحتها، فإنّ عنايتهم كلها بصلاح ظواهرهم وترفيه أنفسهم، فهم أشباح وقوالب ليس وراءها ألباب وحقائق.
قال ابن عباس : كان ابن أبيّ جسيماً صحيحاً فصيحاً ذلق اللسان، وقوم من المنافقين في مثل صفته وهم رؤساء المدينة، وكانوا يحضرون مجلس النبيّ ﷺ ويستندون فيه، ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن، وكان النبيّ ﷺ ومن حضر يعجبون بهياكلهم ﴿وإن يقولوا﴾ أي : يوجد منهم قول في وقت من الأوقات ﴿تسمع لقولهم﴾ أي : لفصاحته فيلذذ السمع ويروق الفكر ﴿كأنهم﴾ أي : في حسن ظواهرهم وسوء بواطنهم، وفي عدم الانتفاع بهم في شيء ﴿خشب﴾ جمع كثرة لخشبة، وهو دليل على كثرتهم ﴿مسندة﴾ أي : قطعت من مغارسها ممالة إلى الجدار. وقرأ أبو عمرو والكسائي بسكون الشين، والباقون بضمها ﴿يحسبون﴾ أي : لضعف عقولهم وكثرة ارتيابهم لكثرة ما يباشرون من سوء أعمالهم ﴿كل صيحة﴾ أي : من نداء مناد في إنشاد ضالة، أو انفلات دابة، أو نحو ذلك واقعة ﴿عليهم﴾ وضارّة لهم لجبنهم وهلعهم لما في قلوبهم من الرعب أن ينزل فيهم ما يبيح دماءهم. ومنه أخذ الأخطل :
٣١٦
*مازلت تحسب كل شيء بعدهم ** خيلا تكرّ عليهم ورجالاً*
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣١٣
ومنه قول الآخر :
*كأنّ بلاد الله وهي عريضة ** على الخائف المطلوب كفة حابل*
*يخال إليه أنّ كل ثنية ** تيممها ترمي إليه بقاتل*


الصفحة التالية
Icon