﴿هم العدوّ﴾ أي : الكامل العداوة بما دل عليه الأخبار بالمفرد الذي يقع على الجمع، إشارة إلى إنهم في شدّة عداوتهم للإسلام وأهله، وكمال قصدهم وشدّة سعيهم فيه على قلب رجل واحد، وإن أظهروا التودّد في الكلام، والتقرّب به إلى أهل الإسلام فإنّ ألسنتهم معكم إذا لقوكم، وقلوبهم عليكم مع أعدائكم فهم عيون لهم عليكم ﴿فاحذرهم﴾ لأنّ أعدى عدوّك من يعاشرك وتحت ضلوعه الداء لكنه يكون بلطف الله دائم الخذلان منكوساً في أكثر تقلباته بيد القهر والحرمان لسرّ قوله تعالى :﴿قاتلهم الله﴾ أي : أحلهم الملك المحيط قدرة وعلماً محل من يقاتله عدوّ قاهر له أشدّ مقاتلة على عادة الفعل الذي يكون بين اثنين.
وقال ابن عباس : أي لعنهم الله، وقال أبو مالك : هي كلمة ذم وتوبيخ، وقد تقول العرب : قاتله الله ما أشعره فيضعونه موضع التعجب ﴿أنى﴾ أي : كيف، ومن أيّ جهة ﴿يؤفكون﴾ أي : يصرفهم عن قبح ما هم عليه صارف ما كائن ما كان ليرجعوا عما هم عليه، وقال ابن عباس : أنى يؤفكون، أي : يكذبون، وقال مقاتل : أي : يعدلون عن الحق، وقال الحسن : يصرفون عن الرشد، وقيل : معناه كيف تضل عقولهم عن هذا مع وضوح الدلائل، وهو من الإفك.
﴿وإذا قيل لهم﴾ أي : من أيّ قائل كان ﴿تعالوا﴾ أي : ارفعوا أنفسكم مجتهدين في ذلك بالمجيء إلى أشرف الخلق الذي لا يزال مكانه عالياً لعلوّ مكانته ﴿يستغفر لكم﴾ أي : يطلب الغفران لأجلكم خاصة من أجل هذا الكذب أي : الذي أنتم مصرّون عليه ﴿رسول الله﴾ أي : أقرب الخلق إلى الملك الأعظم الذي لا شبيه لوجوده ﴿لوّوا رؤوسهم﴾ أي : فعلوا اللي بغاية الشدّة والكثرة، وهو الصرف إلى جهة أخرى إعراضاً وعتواً، وإظهاراً للبغض والنفرة ﴿ورأيتهم﴾ أي : بعين البصيرة ﴿يصدّون﴾ أي : يعرضون إعراضاً قبيحاً عما دعوا إليه، مجدّدين لذلك كلما دعوا إليه، والجملة في وضع المفعول الثاني لرأيت ﴿وهم مستكبرون﴾ أي : ثابتوا الكبر عما دعوا إليه، وعن إحلال أنفسهم في محل الاعتذار فهم لشدّة غلظهم لا يدركون قبح ما هم عليه، ولا يهتدون إلى دوائه، وإذا أرشدهم غيرهم ونبههم لا ينتبهون.
فقد روي أنه لما نزل القرآن فيهم أتاهم عشائرهم من المؤمنين، وقالوا : ويحكم افتضحتم وأهلكتم أنفسكم، فأتوا رسول الله ﷺ وتوبوا إليه من النفاق، واسألوه أن يستغفر لكم فلووا رؤوسهم، أي : حرّكوها إعراضاً وإباء قاله ابن عباس.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣١٣
وعنه : أنه كان لعبد الله بن أبي موقف في كل سبت يحض على طاعة الله وطاعة رسوله، فقيل له : وما ينفعك ذلك ورسول الله ﷺ عليك غضبان، فأته يستغفر لك فأبى، وقال : لا أذهب إليه. وروي أنّ ابن أبيّ رأسهم لوى رأسه، وقال لهم : أشرتم عليّ بالإيمان فآمنت، وأشرتم عليّ
٣١٧
بأن أعطي زكاة مالي ففعلت، ولم يبق إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد فنزل ﴿وإذا قيل لهم تعالوا﴾ الآية. ولم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى ومات.
ولما كان ﷺ يحب صلاحهم فهو يحب أن يستغفر لهم، وربما ندبه إلى ذلك بعض أقاربهم، قال تعالى منبهاً على أنهم ليسوا بأهل للاستغفار لأنهم لا يؤمنون :
﴿سواء عليهم أستغفرت لهم﴾ استغنى بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل ﴿أم لم تستغفر﴾ الله ﴿لهم﴾ أي : سواء عليهم الاستغفار وعدمه لأنهم لا يلتفتون إليه، ولا يعتدّون به لكفرهم ﴿لن يغفر الله﴾ أي : الملك الأعظم ﴿لهم﴾ لرسوخهم في الكفر ﴿إن الله﴾ أي : الذي له كمال الصفات ﴿لا يهدي القوم﴾ أي : الناس الذين لهم قوّة في أنفسهم على ما يريدونه ﴿الفاسقين﴾ أي : لأنهم لا عذر لهم في الإصرار على الفسق، وهو المروق من حصن الإسلام بخرقه وهتكه مرّة بعد مرّة، والتمرن عليه حتى استحكم فهم راسخون في النفاق، والخروج عن مظنة الإصلاح.
﴿هم﴾ أي خاصة بخالص بواطنهم ﴿الذين يقولون﴾ أي : أوجدوا هذا القول للأنصار، ولا يزالون يجددونه لأنهم كانوا مربوطين بالأسباب محجوبين عن شهود التقدير ﴿لا تنفقوا﴾ أي : أيها المخلصون في النصرة ﴿على من﴾ أي : الذين ﴿عند رسول الله﴾ أي : الملك المحيط بكل شيء، وهم فقراء المهاجرين ﴿حتى ينفضوا﴾ أي : يتفرّقوا فيذهب كل أحد منهم إلى أهله وشغله الذي كان له قبل ذلك.
قال البقاعي : وما درى الأجلاف أنهم لو فعلوا ذلك أتاح الله تعالى غيرهم للإنفاق، أو أمر رسول الله ﷺ فدعا في الشيء اليسير فصار كثيراً، أو كان بحيث لا ينفد، أو أعطى كلاً يسيراً من طعام على كيفية لا ينفد معها كتمر أبي هريرة، وشعير عائشة، وعكة أمّ أيمن وغير ذلك كما روى غير مرّة، ولكن ﴿من يضلل الله فما له من هاد﴾ (الزمر : ٢٣)
ولذلك عبر في الردّ عليهم بقوله تعالى :﴿ولله﴾ أي : قالوا ذلك واستمرّوا على تجديد قوله، والحال أنّ الملك الذي لا أمر لغيره ﴿خزائن السموات﴾ أي : كلها ﴿والأرض﴾ كذلك من الأشياء المعدومة الداخلة تحت مقدوره، ﴿إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون﴾ (يس : ٨٢)