جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣١٣
ومن الأشياء التي أوجدها فهو يعطي من يشاء منها، حتى مما في أيديهم لا يقدر أحد على منع شيء من ذلك لا مما في يده ولا مما في يده غيره.
ونبه على سوء غباوتهم وأنهم تقيدوا بالوهم حتى سفلوا عن رتبة البهائم كما قال بعضهم : إن كان محمد صادقاً فنحن شرّ من البهائم بقوله تعالى :﴿ولكن المنافقين﴾ أي : العريقين في وصف النفاق ﴿لا يفقهون﴾ أي : يتجدّد لهم فهم أصلاً كالبهائم بل هم أضل، لأنّ البهائم إذا رأت شيئاً ينفعها يوماً في مكان طلبته مرة أخرى، وهؤلاء رأوا غير مرّة ما أخرج الله تعالى من خوارق البركات على يد رسوله ﷺ فلم ينفعهم ذلك، ودل على عدم نفعهم بقوله تعالى :
﴿يقولون﴾ أي : يوجدون هذا القول ويجدّدونه مؤكدين لاستشعارهم بأنّ أكثر قومهم ينكره ﴿لئن رجعنا﴾ أي : أيتها العصابة المنافقة ﴿إلى المدينة﴾ أي : من غزاتنا هذه، وهي غزوة بني المصطلق حيّ من هذيل خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له : المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل ﴿ليخرجنّ الأعز﴾ يعنون أنفسهم ﴿منها﴾ أي : المدينة ﴿الأذل﴾ يعنون النبيّ ﷺ وأصحابه، وهم كاذبون في هذا لكونهم تصوروا لشدة غباوتهم أنّ العزة لهم، وأنهم يقدرون على إخراج المؤمنين ﴿وله﴾ أي :
٣١٨
والحال أنّ كل من له نوع بصيرة يعلم أنّ الملك الأعلى هو الذي له وحده ﴿العزة﴾ أي : الغلبة كلها ﴿ولرسوله﴾ لأنّ عزتّه من عزته ﴿وللمؤمنين﴾ فعزة الله قهره من دونه، وكل من عداه دونه وعزة رسوله إظهار دينه على الأديان كلها، وعزة المؤمنين نصر الله تعالى إياهم على أعدائهم ﴿ولكن المنافقين﴾ أي : الذين استحكم فيهم مرض القلوب ﴿لا يعلمون﴾ أي : لا يوجد لهم علم الآن، ولا يتجدد في حين من الأحيان فلذلك هم يقولون مثل هذا الخراف.
روي أنه لما نزلت هذه الآية جاء عبد الله ولد عبد الله بن أبي ابن سلول الذي نزلت هذه الآيات بسببه كما مرّ إلى أبيه، وذلك في غزوة المريسيع لبني المصطلق فأخذ بزمام ناقته، وقال : أنت والله الذليل ورسول الله ﷺ العزيز. ولما أراد أن يدخل المدينة عبد الله بن أبي اعترضه ابنه حباب، وهو عبد الله غير رسول الله ﷺ اسمه، وقال "إن حباباً اسم شيطان" وكان مخلصاً، وقال : وراءك والله لا تدخلها حتى تقول رسول الله ﷺ الأعز وأنا الأذل، فلم يزل حبيساً في يده حتى أمره رسول الله ﷺ بتخليته. وروي أنه قال : لئن لم تقرّ لله ولرسوله بالعزة لأضربنّ عنقك، فقال : ويحك أفاعل أنت ؟
قال : نعم، فلما رأى منه الجدّ، قال : أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فقال النبي ﷺ لابنه "جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيراً".
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣١٣
فإن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى ختم الآية الأولى بقوله تعالى :﴿لا يفقهون﴾ وختم الثانية بقوله تعالى :﴿لا يعلمون﴾ ؟
أجيب : بأنه ليعلم بالأولى قلة كياستهم وفهمهم، وبالثانية حماقتهم وجهلهم. ويفقهون من فقه يفقه كعلم يعلم، أو من فقه يفقه كعظم يعظم، فالأوّل لحصول الفقه بالتكلف، والثاني لا بالتكلف، فالأول علاجي، والثاني مزاجي.
ثم نهى الله تعالى المؤمنين عن التشبه بالمنافقين فقال تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣١٣
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي : أقروا بالإيمان، وقلوبهم مذعنة كظواهرهم ﴿لا تلهكم﴾ أي : لا تشغلكم ﴿أموالكم ولا أولادكم﴾ سواء كان ذلك في إصلاحها، أو التمتع بها بحيث تغفلون ﴿عن ذكر الله﴾ أي : الملك الأعظم حذر المؤمنين أخلاق المنافقين، أي : لا تشتغلوا بأموالكم كما فعل المنافقون ؛ إذ قالوا لأجل الشح بأموالهم ﴿لا تنفقوا على من عند رسول الله﴾ وقوله تعالى :﴿عن ذكر الله﴾ قال الضحاك : أي : عن الصلوات الخمس، نظيره : قوله تعالى :﴿لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله﴾ (النور : ٣٧)
وقال الحسن : عن جميع الفرائض، كأنه قال : عن طاعة الله تعالى. وقيل : عن الحج والزكاة. وقيل عن قراءة القرآن، وقيل : عن إدامة الذكر، وقيل : هذا خطاب للمنافقين، أي : آمنتم بالقول فآمنوا بالقلب.
ولما كان التقدير فمن انتهى فهو من الفائزين عطف عليه قوله تعالى :﴿ومن يفعل﴾ أي :
٣١٩
يوقع في زمن من الأزمان على سبيل التجديد والاستمرار فعل ﴿ذلك﴾ أي : الأمر البعيد عن أفعال ذوي الهمم من الانقطاع إلى الاشتغال بالفاني والإعراض عن الباقي ﴿فأولئك﴾ البعداء عن الخير ﴿هم الخاسرون﴾ أي : العريقون في الخسارة في تجارتهم، حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني، حتى كأنهم مختصون بها دون الناس، وذلك بضد ما أرادوا.
﴿وأنفقوا﴾ أي : ما أمرتم به من واجب أو مندوب كما قاله بعض المفسرين، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : يريد زكاة الأموال، وهو ظاهر الأمر.