سورة التغابن
مدنية
في قول الأكثرين، وقال الضحاك : مكية، وقال الكلبي : مدنية ومكية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن سورة التغابن نزلت بمكة إلا آيات من آخرها نزلت بالمدنية في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى رسول الله ﷺ جفاء أهله وولده، فأنزل الله عز وجلّ ﴿يا أيها الذين آمنوا إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوّاً لكم﴾ إلى آخرها، وهي ثماني عشرة آية، ومائتان وإحدى وأربعون كلمة، وألف وسبعون حرفاً.
﴿بسم الله﴾ مالك الملك فلا كفء له ولا مثيل ﴿الرحمن﴾ أي : الذي وسع الخلائق بره الجليل ﴿الرحيم﴾ الذي خص من عمه فوفقهم للجميل.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٢١
﴿يسبح﴾ أي : يوقع التنزيه التامّ مع التجديد والاستمرار ﴿لله﴾ أي : الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿ما في السموات﴾ أي : كلها ﴿وما في الأرض﴾ كذلك، وقيل : اللام زائدة، أي : ينزه الله تعالى، قال الجلال المحلي : وأتى بما دون من تغليباً للأكثر ﴿له﴾ أي : وحده ﴿الملك﴾ أي : كله مطلقاً في الدنيا والآخرة ﴿وله﴾ أي : وحده ﴿الحمد﴾ أي : الإحاطة بأوصاف الكمال كلها، فلذلك نزهه جميع مخلوقاته وقدّم الظرفين ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله تعالى، وذلك بأنّ الملك على الحقيقة له، لأنه مبدئ كل شيء ومبدعه، والقائم به والمهيمن عليه، وكذا الحمد لأنّ أصول النعم وفروعها منه وأما ملك غيره فتسليط منه
٣٢٢
واسترعاء وحمده اعتداد بأنّ نعمة الله جرت على يده ﴿وهو على كل شيء قدير﴾
﴿هو﴾ أي : وحده ﴿الذي خلقكم﴾ أي : أنشأكم على ما أنتم عليه ﴿فمنكم﴾ أي : فتسبب عن خلقه لكم وتقديره ﴿كافر﴾ أي : عريق في صفة الكفر ﴿ومنكم مؤمن﴾ أي : راسخ في الإيمان في حكم الله تعالى في الأزل، قال ابن عباس رضي الله عنهما : إنّ الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً، ويعيدهم في القيامة مؤمناً وكافراً.
وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال :"خطبنا رسول الله ﷺ عشية فذكر شيئاً مما يكون فقال : تولد الناس على طبقات شتى، يولد الرجل مؤمناً ويعيش مؤمناً ويموت مؤمناً، ويولد الرجل كافراً ويعيش كافراً ويموت كافراً، ويولد الرجل كافراً ويعيش كافراً ويموت مؤمناً"، أي : وسكت عن القسم الآخر، وهو أن يولد الرجل مؤمناً ويعيش مؤمناً ويموت كافراً اكتفاء بالمقابل، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : قال النبيّ ﷺ "خلق الله تعالى فرعون في بطن أمّه كافراً، وخلق يحيى بن زكريا عليهما السلام في بطن أمّه مؤمناً وفي الصحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه :"وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي أنّ رسول الله ﷺ قال :"إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة" قال القرطبي : قال علماؤنا : والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم فيجري ما علم وأراد وحكم، فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال، وقد يريده إلى وقت معلوم، وكذلك الكفر.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٢٢
وقيل : في الكلام محذوف، تقديره : فمنكم مؤمن ومنكم كافر ومنكم فاسق فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه، قاله الحسن. وقال غيره : لا حذف لأنّ المقصود ذكر الطرفين، وقيل : إنه خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا، والتقدير : هو الذي خلقكم، ثم وصفهم فقال :﴿فمنكم كافر ومنكم مؤمن﴾ كقوله تعالى :﴿والله خلق كل دابة من ماء﴾ (النور : ٤٥)
ثم قال تعالى :﴿فمنهم من يمشي على بطنه﴾ (النور : ٤٥)
الآية. قالوا : فإنه خلقهم والمشي فعلهم، وهذا اختيار الحسين بن الفضل، قال : لو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله تعالى :﴿فمنكم كافر ومنكم مؤمن﴾ واحتجوا بقوله ﷺ "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" قال البغوي : وروينا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ﷺ "إن الغلام
٣٢٣
الذي قتله الخضر طبع على الكفر" وقال تعالى :﴿ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً﴾ (نوح : ٢٧)
وروى أنس رضى الله عنه عن النبيّ ﷺ أنه قال :"وكل الله بالرحم ملكاً، فيقول : أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها، قال : يا رب ذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، فما الرزق، فما الأجل، فيكتب ذلك في بطن أمه" وقال الضحاك : فمنكم كافر في السرّ مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في العلانية والسرّ، كعمار وزيد. وقال عطاء بن أبي رباح : فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب، يعني : في شأن الأنواء كما جاء في الحديث. قال القرطبي : وقال الزجاج : وهو أحسن الأقوال.