والذي عليه الأئمة أن الله خلق الكافر وكفره فعل له، وكسب واختيار، وخلق المؤمن وإيمانه فعل له، وكسب واختيار وكسبه واختياره بتقدير الله ومشيئته، فالمؤمن بعد خلق الله إياه يختار الإيمان لأنّ الله تعالى أراد ذلك منه وقدّره عليه وعلمه منه، والكافر بعد خلق الله إياه يختار الكفر لأنّ الله تعالى قدره عليه وعلمه منه، ولا يجوز أن يوجد من كل منهما غير الذي قدره عليه وعلمه منه، لأنّ وجود خلاف المقدور عجز، ووجود خلاف المعلوم جهل فلا يليقان بالله تعالى. قال البغوي : وهذا طريق أهل السنة، من سلكه أصاب الحق وسلم من الجبر والقدر.
قال الرازي : فإن قيل : إنه تعالى حكيم وقد سبق في علمه أنه تعالى إذا خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر فأيّ حكمة دعت إلى خلقهم ؟
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٢٢
فالجواب : إذا علمنا أنه تعالى حكيم علمنا أنّ أفعاله كلها على وفق الحكمة فيكون خلقه تعالى هذه الطائفة على وفق الحكمة، ولا يلزم من عدم علمنا بذلك أن لا يكون كذلك، بل اللازم أن يكون خلقهم على وفق الحكمة ﴿والله﴾ أي : الذي له الإحاطة الكاملة ﴿بما تعملون﴾ أي : توقعون عمله كسباً ﴿بصير﴾ أي : بالغ العلم بذلك، فهو الذي خلق جميع أعمالكم التي نسب كسبها إليكم، وهو خالق جميع الاستعدادات والصفات كما خلق الذوات خلافاً للقدرية، لأنه لا يتصور أن يخلق الخالق ما لا يعلمه، ولو سئل الإنسان كم مشى في يومه من خطوة لم يدر فكيف لو سئل أين موضع مشيه، ومتى زمانه فكيف، وإنه ليمشي أكثر مشيه وهو غافل عنه، ومن جهل أفعاله كماً وكيفاً وأيناً وغير ذلك لم يكن خالقاً لها بوجه.
ولما ذكر المظروف ذكر ظرفه دالاً على تمام إحاطته بالبواطن والظواهر.
وقوله تعالى :﴿خلق السموات﴾ أي : على علوها وكبرها ﴿والأرض﴾ على سعتها ﴿بالحق﴾ أي : بالأمر الذي يطابقه الواقع لما أراد ﴿وصورّكم﴾ أي : آدم عليه السلام خلقه بيده كرامة له. قال مقاتل : وقيل : جميع الخلائق على صور لا توافق شيئاً من صور العلويات، ولا السفليات، ولا فيها صور توافق الأخرى من كل وجه ﴿فأحسن صوركم﴾ فجعلها أحسن الحيوانات كلها كما هو مشاهد، وبدليل أن الإنسان لا يتمنى أن يكون على خلاف ما يرى من سائر الصور، ومن حسن صورته أن خلقه منتصباً غير منكب كما قال تعالى :﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم﴾ (التين : ٤)
كما يأتى إن شاء الله تعالى.
٤٢٣
فإن قيل : قد يوجد في أفراد هذا النوع من كل مشوه الخلقة سمج الصورة.
أجيب : بأنه لا سماجة لأن الحسن في المعاني، وهو على طبقات ومراتب، فانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقه لا يمنع حسنه، فهو داخل في حيز الحسن غير خارج عن حدّه، فقبح القبيح منه إنما هو بالنسبة إلى أحسن منه. ولذا قال الحكماء : شيئان لا غاية لهما الجمال والبيان، فقدرة الله سبحانه وتعالى لا تتناهى.
قال البقاعي : فإياك أن تصغي لما وقع في كتب الغزالي إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، فإن ذلك ينحل إلى أنه سبحانه لا يقدر أن يخلق أحسن من هذا العالم، وهذا لا يقوله أحد، ا. ه. وهو لا ينقص مقدار الغزالي فإن كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه كما قال الإمام مالك، وعزاه الغزالي نفسه إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الشافعي : صنفت هذه الكتب وما ألوت فيها جهداً وإني لا علم أن فيها الخطأ لأن الله تعالى يقول :﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا﴾ (النساء : ٨٢)
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٢٢
ولما كان التقدير فكان منه سبحانه المبدأ عطف عليه قوله تعالى :﴿وإليه﴾ وحده ﴿المصير﴾ أي : المرجع بعد البعث فيجازى كلاً بعمله.
﴿يعلم﴾ أي : علمه حاصل في الماضي والحال والمآل ﴿ما﴾ أي : كل شئ ﴿في السماوات﴾ أي : كلها ﴿والأرض﴾ كذلك ﴿ويعلم﴾ أي : على سبيل الاستمرار ﴿ما تسرون﴾ أي : تخفون ﴿وما تعلنون﴾ أي : تظهرون من الكلمات والجزئيات ﴿والله﴾ أي : الذي له الإحاطة التامة ﴿عليم﴾ أي : بالغ العلم ﴿بذات﴾ أي : صاحبة ﴿الصدور﴾ من الأسرار والخواطر التي لم تبرز في الخارج سواء كان صاحب الصدر قد علمها أم لا، وعلمه لكل ذلك على حد سواء لا تفاوت فيه بين علم الخفي وعلم الجلي نبه بعمله ما في السماوات والأرض، ثم يعلم ما يسره العباد ويعلنونه، ثم بعلمه ذوات الصدور إن شيئاً من الجزئيات والكليات غير خافٍ عليه، ولا عازب عنه، ولا يجترىء على شيء مما يخالف رضاه، وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد، وكل ما ذكره بعد قوله :﴿فمنكم كافر ومنكم مؤمن﴾ كما ترى في معنى الوعيد على الكفر، وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٢٢